أمنيات غزة للعام 2025

هداية شمعون(*)

كل الأمنيات في العالم يمكن أن توضع في كف وأمنياتنا في غزة في كفة أخرى، لا يمكنك تخيل هذه الأمنيات طول حياتك، ولن تكون قد قرأت عنها يوما في كتاب أو صحيفة، وحتى أكثر خيالاتك وتصوراتك ما كنت ستدرك أنها أمنيات حقيقة صادقة تعبر عن الألم والحرمان الآن في القلوب والأرواح الغزية، وربما أسرد بعضها لكن هنالك أمنيات لم تسرد ولن تسرد فقد رحلت مع أكثر من خمس وأربعين ألفا بينما كانت لهم أمنيات كثيرة، والأمنيات أعزائي هي أمنيات نعلم أنها قد تبدو مستحيلة لكنها تبقى أمنية تعانق الأمل أن تحدث ربما ولو بعد حين فلولا الأمنيات لكنا ضمن أعداد القتلى أو العالقين تحت الأنقاض ..!

أمنية الشعور بالدفء في ليالي الأربعينية القارصة:

بينما الرياح تعصف في الخيم الرقيقة المهترئة، وهي أمنية الصغير والكبير والمريض وكل النازحين، فبينما توفي أكثر من ستة أطفال في الخيام بسبب البرد الشديد حتى الآن، لم يرحم البرد أيضا الحكيم أحمد الزهارنة إذ فوجئ الجميع صباحا به جثة هامدة من شدة البرد في خيمته في منطقة المواصي المعروفة ببردها بالصيف فكيف الحال بالشتاء…! ألا يستحق الدفء أن يكون أمنية الغزيين النازحين المشردين في العراء.. أمنية الغزيين لم يشعر بها من يتلفع بالأغطية الوفيرة والمدفئات والنار التي يمكنه أن يشعلها بأمن وأمان…!

أمنية الحصول على وجبة دسمة دافئة من الطعام والخضراوات الصحية:

وتلك الفاكهة التي أصبحت صورة في مخيلة الغزيين، الجوع نهش قلب أبناء وبنات مدينتي وأهلي وجيراني لم يعرفوا غير المعلبات طعاما فانهارت أجسادهم ليصبحوا أكثر نحولا، واصفرت وجوههم واسودت وأصبح الشاب بوجه عجوز، والطفل بات أكثر نحافة وضعفا، لا طعام صحي ولا ماء نظيف، ولا لقمة هنية، إنما الخوف يتسرب لأجسادهم أكثر مما يتسرب له المأكل والمشرب، أمنية قد لا يشعر بقيمتها من يسرفون في الطعام ومن يلقون منه أكثر مما يأكلونه، يا لأمنية الشبع والراحة بعد عام ويزيد لأكثر من مليوني نازح عجزوا عن شراء اللحوم والخضروات والفاكهة للأسعار الفادحة التي تزيد في قيمتها كل دول العالم ومدنها..!!

أمنية أن يحظى بخيمة تستره وعائلته وألا ينام في العراء:

وألا تنتهك خصوصية عائلته، الستر ما ينشده الأب والأم أن يغمضوا أعينهم وعائلتهم قربهم، ألا يباتوا على الأرصفة وأن تكون لهم خيمة من قماش من نايلون لا يهم، أمنية ألا يبتوا ليلة أخرى في بيت مقصوف قد ينهار على رؤوسهم من أي ضربة قريبة مجاورة، أمنية ألا يدفنوا في بيوتهم التي بنوها بأيديهم، يا خيمتنا يا أجدادنا الذين قتلوا قبلنا وأخبرونا بما فعل بهم جنود الاحتلال الإسرائيلي، وكتبنا حكايتهم ولكنا حين كتبنا لم نفكر أن ما فعلوه بأجدادنا سيفعلونه بنا في أم النكبات في غزة…!

أمنية الموت قطعة واحدة:

أمنية الموت قطعة واحدة، يا لها من أمنية ترددت منذ بداية الحرب، أريد أن أكون قطعة واحدة لا أريد أن أموت أشلاء لا أريدهم أن يضعوني في كيس يلملوا أشلائي من بين الدمار والخراب، لا أريدهم أن يخلطوا أشلائي بغيري من شهداء، أريد موتا رحيما أحافظ فيه على يدي وقدمي ورأسي قطعة واحدة جسد واحد…!!

من يخطر بباله هذه الأمنية لمن هو خارج غزة لا أحد يشعر بقيمة حرمة جسدك الميت، دفنك في قبر يالها من أمنية عظيمة، لا دفن في الأسواق أو الشوارع أو بين الأرصفة أو بجوار ما كانت تعرف بالحدائق، لا قبور في المدينة، لا أكفان يا لها من أمنية أن يجد الشهيد كفنا أبيضا يستر به جسده، يا لصرخات من ظلوا أحياء كيف لهم أن يحققوا للشهداء أمنياتهم، وقد أصبحت في أعناقهم معلقة كما تعلق بهم الموت واحدا تلو الآخر، أريد كفنا أبيضا ليكون كفني، هذه أمنية الغزيين بعد أن نفذت الأكفان، بعد أن نفذت الأغطية وشراشف الأسرة وأقمشة الستائر والكثير من القهر..!!

يا لأمنيات الغزيين أصبحت تضرب فيهم الأمثال فحين يكفن أحدهم ويدفن وتتم له مراسم الدفن يهدئ أهله وأحبابه بأنهم تمكنوا من تكريمه ودفنه ويعرفون عنوانا لقبره ليزوروه وليقرأوا الفاتحة على قبره متى شاءوا ويوزعوا الحلقوم، وليسقوا قبره بالماء ولتنمو الورود على قبره، ماذا تريدون أكثر من ذلك ففي غزة لا شيء مما ذكر، فلا جنازة ولا كفن ولا حتى بيت عزاء واحد قد أقيم فالموت لازال يخطفهم واحدا تلو الآخر، عائلة تلو الأخرى…!!

أمنية أن يبقى أحد على قيد الحياة من العائلة:

إنما هي أمنية يختلف فيها أهل غزة فمنهم من يوزع أبنائه ويتفرق كي ينجو بعض أولاده وأحفاده إذا ما واجهوا القتل أو القصف العشوائي للبيوت والمدنيين، كأمنية أخيرة ألا تمسح العائلة من السجل المدني ويبقى هنالك أثر حتى لو بعد حين، بينما عائلات أخرى احتضنت بعضها البعض وامنية واحدة تحملها أن يموتوا معا كما عاشوا معا، وألا يبقى أحد وحيدا يعاني بسبب قتل كل أفراد عائلته..

يا لجبروت أمنياتكم أيها الغزيين ومن يفكر مثلكم ومن يفهم كيف تواجهون أعتى وأشرس آلة للقتل بلحومكم بأجسادكم العارية، من يثرثر ليس كمن يسيل دمه ليملأ طرقات المدينة النازفة، البحر بات أحمرا من دماء أطفالك يا غزة وآلاف العائلات التي لم ينجو منها أحد ومن تبقى منها فرد أو اثنين، والمجزرة لازالت مستمرة والإبادة لازالت مستمرة إذن لابد أن تكون امنياتكم استثنائية كحياتكم وموتكم الاستثنائي…!!

أمنية ألا يدنسوا قبور آبائنا وأمهاتنا وأحبتنا:

فالمقابر قد دنسوها، وقد قلبوا ما فيها من قبور وعبثوا فيها حتى أخرجوا الموتى من قبرهم الأخير، لاحقوهم حتى في موتهم، فتشوا قبورهم داسوها بجنازير دبابتهم في رفح وفي غزة وفي بيت حانون وجباليا، لم يتركوا للموتى راحة ولا سلام، لم يتركوا لنا سوى الأمنيات بموت هانئ لموتانا…! أمنية ألا يقتربوا من قبور أحبابنا الذي غادرونا منذ سنين، يا لأمنياتنا التي لم تخطر ببال بشري على هذه الأرض، من يشعر بنا، من يشعر بوجعنا من يشعر بموتنا كل يوم وكل دقيقة بينما الدم يجري كالأنهار؟ من يشعر بقيمة ما لديه خارج غزة لن تشعروا أبدا لأنكم لن تصدقوا أبدا أن هذا ما يحدث ولازال يحدث في كل أنحاء غزة…!

أمنية ألا تقتل بيوتنا التي بنيناها بعرق جبيننا:

فالبيوت ليس الحجارة والجدران التي ترونها، إنها ذلك العرق الذي جمعناه بعد تعب وأخذ جزءا من جلودنا ونحتنا به غرف البيت غرفة غرفة، تحملنا الويل لكي يكون لنا بيوتا تحمينا صيفا وشتاء تسترنا وتكون لنا حياتنا الخاصة، البيت الدافئ بالمحبة والسلام والسكينة، أمنياتنا ألا تقتل بيوتنا لكنهم مسحوها وجعلوها كأنها سهل، كتلة حجارة لتختلط البيوت والشوارع ولم نعد ملامح بيوتنا حيث عشنا وترعرعنا، داسوا ذكرياتنا بدبابتهم، وآلياتهم العسكرية، أذابوا قلوبنا بصهر الحديد، حديد بيوتنا الذي كان قائما كأشجار الزيتون، كانت بيوتنا ممتشقة القامة، كالخيل الأصيل ترفع رأسها بشموخ، هدموا قمة البيت وكسروا أقدامه وجعلوا أعمدته تتكسر ليخون البيت الذي يحمله ليخون أصحابه، فالبيت يبكي وتسيل دماؤه أيضا أمنية أن يقام بيت عزاء لبيوتنا التي احتضنت طفولتنا وشبابنا وكهولتنا، من بغير غزة يمكنه أن يتخيل امنية مشابهة، غزة استثناء الحياة، وهي تدك وتدمر البعض جعل منها أسطورة دون أن يقدم لها يد العون، والبعض لعنها ولم يقدم لها الحضن الدافئ، والبعض تنكر لها وخذلها ولم يفعل غير الثرثرة بينما دمها يسيل ليغرق البحر بدم محبوبته..!!

أمنياتنا هي حقوق منتهكة على مرأى ومسمع العالم:

أمنية الحصول على مكان نظيف آمن، كهرباء من عام وأكثر لا يعرفها أهل غزة، أمن وأمان مفقود، أمراض وأوبئة وأمنيات الصحة والعافية، امنية الحصول على شربة ماء نظيف أو حبة دواء او حق في العلاج أو السفر، أن تضع رأسك ليلة واحدة على مخدة نظيفة دون صوت القصف وانفجارات القذائف وصوت الكوادكابتر، هي أمنيات كثيرة لا حصر لها وكلها حقوق مسلوبة، أمنيات بالوصول للتعليم ولرؤية العائلة وعدم التشتت والتشرد بين الأهل بعضهم في شمال غزة وآخرين في جنوبها وقد تقطعت بهم الأوصال لأن يكونوا معا، أمنية العيشة الهنية واللقمة الهنية وسرير دافئ وغطاء يستر الجسد النحيف يا لهول ما تتمني يا غزة، أمنية الحياة لم تعد صالحة في كل خطوة في داخل غزة، فالحصار مطبق منذ سنوات طويلة، والموت يأتي من السماء والأرض والبحر فكيف سترى الحياة بصيصا من اشراقتها في جحيم مطبق على أنفاس الناجين..!!

لن انتهي من سرد الأمنيات في غزة، فأن تقف الإبادة ليست أمنية فحسب إنها أن تنجو من النجاة، ألا تنحني للموت فالموت ليس أمنية ولم يكن، فغزة الجميلة معشوقة الحياة كانت تعبر عن فرحها بمبالغة شديدة وكأنها تعلم ما كانت ستفقده، لكننا لم نكن نعلم أن هنالك قلوب سوداء حاقدة لازالت تتربص حتى بأمنياتنا.. تتربص بأمنيات الحياة والنجاة والحب والدفء والعائلة والسكينة والأمان والحرية وتتخذنا قربانا لآلهتهم، أكثر من مليوني نازح فقد أكثر من 10 بالمئة منهم ما بين قتيل وفقيد أمنيتهم أن تنتهي الإبادة ليلتقطوا أنفاسهم ويبحثوا عن بقايا عائلاتهم، بقايا مدينتهم الحزينة…!!

وسأنهي الأمنيات التي لا تنتهي بأمنية لصحفي فلسطيني غطى حرب الإبادة الجماعية على غزة منذ بدايتها إلى اليوم ولديه أمنية واحدة أتركها بلغته ونصه:

“بعد أكثر من عام من تغطية الحرب على غزة.. أنا وصلت لمرحلة كارثية جدا، أمنية حياتي أن أبكي بكاءا شديدا، أعبر عن كمية القهر التي بداخلي، أمنيتي أن أستطيع أن أعبر عن مشاعري آلامي أوجاعي قهري، أحسد أي شخص يبكي يستطيع أن يخرج ما بداخله.. من بشاعة المشاهد التي قمت بتوثيقها أصبحت ليس عمرو الذي كنت أعرفه دائما، أحاول أن أعيش أجواء تخرجني من الذي يعيش بداخلي ولكن دون جدوى، أعتقد أنه لا يوجد دكتور نفسي يقبلني بي لحل ما بداخلي من كثرة الأشياء التي تصطدمه، ولا يستطيع أن يعالجني، ويعود بعمرو” عمرو طبش

29 ديسمبر 2024

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(*) كاتبة وإعلامية فلسطينية من قطاع غزة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى