استشهدت مع طفليها خلالَ مجزرةِ الشجاعية منوّر: (ضل عندي أمل أربع أيام أن بنتي يكون فيها الروح)

استشهدت مع طفليها خلالَ مجزرةِ الشجاعية

منوّر: (ضل عندي أمل أربع أيام أن بنتي يكون فيها الروح)

غزة – رفيف اسليم:

ما يزالُ طيفُ الشهيدةِ أسماء يلاحقُ والدتها منوّر سكر (48 عامًا) كلما أغمضت عيناها، مستذكرة ابتسامتها التي قطعها مشهدُ رحيلِها المروّع؛ حين قتلتها مع طفليها قذيفةُ دبابةٍ إسرائيليةٍ أثناء نزوحِها من حي الشجاعية شرق مدينة غزة، تاركةً الطفل الثالث يتيمًا وحيدًا!

تروي الأم المكلومة: “يوم 4 ديسمبر/كانون الأول 2023م، لم يكن عاديًا، الساعة التاسعة صباحًا، بدأت دبابات الاحتلال الإسرائيلي إغراق حي الشجاعية بالقذائف، أدركنا إنه بداية اجتياح، وبعد ساعاتٍ وصلت الدبابات منتصف الحي، أسرعنا بالنزوح خارجه حاملين حقائب الطوارئ، تحرّكنا مع الركب الذي سيطر عليه الذعر والصراخ”.

منوّر: سألته وين بنتي اطلّع فيا تطليعة طويلة وحط راسه بالأرض ومشي

كانت الأم حينها نازحةً بمركز إيواء، بينما تسكن أسماء (27 عامًا) على بعد 200 مترٍ منها، ويفترض أن تسلك ذات الطريق في نزوحها، لكنها رأت زوج ابنتها مؤمن حميد (33 عامًا) وحيدًا يجرّ جسده المتعب، مضيفة: (لما شفته سألته وين بنتي، اطلّع فيا تطليعة طويلة وحط راسه بالأرض ومشي، بعدها إجا أخوه سنده، عرفت إن في مصيبة).

أخذت منوّر بالصراخ “أين ابنتي”، بينما أجاب شقيقه: “بنتك هناك بالشارع اللي ورانا حاصرتها الدبابة وما حد قادر يجيبها، يمكن عايشة ويمكن استشهدت”، تكمل: “سقطتُ أرضًا، وعزمت على الرجوع والموت معها، لكن ابني إبراهيم (19 عامًا) أمسكني، وأخبرني إنه لن يفارقني وسيذهب للموت معي، اضطررت للنزوح، وأنا أدعو الله أن يرسل من ينقذها”.

منوّر: ضل عندي أمل أربع أيام أن بنتي يكون فيها الروح

(ضل عندي أمل أربع أيام أن بنتي يكون فيها الروح)، بهذه الكلمات تحدّثت الأم المكلومة، وبكت بينما تكمل إنه يوم 8 ديسمبر/كانون الأول 2023م، قصّ عليها زوج ابنتها ما حدث، فأسماء لم تكن خائفة، بل ارتدت أجمل ما لديها، وتأكّدت من حقيبة الطوارئ، وخرجت مع العائلة، ولكن القذائف الدخانية حوّلت الطريق للون الأبيض، فسلكت طريقًا مسدودًا بركام عمارة، وعندما أرادوا الخروج هي وسلفتها (زوجة شقيق الزوج) وأطفالهن، وجدنَ مدفعُ دبابةٍ مصوّبٍ نحوهم.

تضيف منوّر: “استشهدت أسماء متأثرة بجراحها؛ لأن الإسعاف رفض الدخول للمكان كونها منطقة عسكرية، وبقيت سلفتها فداء (29 عامًا) شاهدةً على الحدث، بعد ساعاتٍ من الإصابة لفظ طفلها محمود أنفاسه، وبقيت نور (4 سنوات) تصارع الموت حتى استشهدت، ونجا كنان (3 سنوات)”.

منوّر: ضلّت فداء لحالها طول الليل وشظايا القذائف وطلقات الكواد كابتر تمرّ من جنبها، ما كان مونّسها غير صوت الكلاب والبسس

“ضلّت فداء لحالها طول الليل وشظايا القذائف وطلقات الكواد كابتر تمرّ من جنبها، ما كان مونّسها غير صوت الكلاب والبسس، لحد ما طلع الصبح”، تكمل منوّر، إن فداء ترقد حاليًا في غيبوبة مؤقتة بمستشفى شهداء الأقصى، بمدينة دير البلح وسط قطاع غزة، فبعدما أنقذها أحد المارة ونقلها إلى المستشفى الأهلي بغزة، تم تحويلها إلى جنوب القطاع.

نزحت منوّر إلى ملعب فلسطين وسط مدينة غزة، برفقةِ زوجها رياض سكر (52 عامًا)، وأبنائها إبراهيم (19 عامًا)، رغد (12 عامًا)، وريتال (11 عامًا)، حتى انسحاب الدبابات الإسرائيلية من حي الشجاعية، مستذكرة أن أول نزوحٍ لها كان يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023م، حيث حوصرت في مستشفى القدس يوم 12 نوفمبر/تشرين الثاني 2023م، ونزحت تحت النيران، لتتوالى مرات النزوح إلى 12 مرّة، ختامُها يوم 8 يوليو/تموز 2024م، حيث تعيشُ حاليًا في روضةِ أطفال في حي الشجاعية.

أما الصغير كنان، فقد تولّت جدتُه لأبيه رعايته، لكنها حوصرت برفقةِ عددٍ من نساءِ العائلة خلال اجتياح منطقة الصناعة وسط مدينة غزة يوم 9 يوليو/تموز 2024م، وأرغمتهم قوات الاحتلال الإسرائيلي تحت النيران على النزوح إلى الجنوب، ولم يبقَ للجدة منوّر سوى الهاتف للاطمئنان على حفيدها.

واستشهد خلال اجتياح حي الشجاعية الذي استمر حتى 26 ديسمبر/كانون الأول 2023م، نحو ألف فلسطينية وفلسطيني، في مخالفة لاتفاقية جنيف الرابعة، الخاصة بحماية المدنيين وقت الحرب، بينما تجاوز ضحايا الحرب 42 ألفًا حتى إعداد هذا التقرير منتصف أكتوبر/تشرين الأول 2024م.

وتنص الاتفاقية في مادتيها (3) و(10) على أنه لا يجوز الاعتداء على الحياة والسلامة البدنية للأشخاص المحميين والقتل والتشويه والمعاملة القاسية والتعذيب، ويجوز لأي جهة إنسانية غير متحيزة مثل الصليب الأحمر عرض خدماتها، كما نص قرار مجلس الأمن الدولي رقم (1325) على حماية خاصة للنساء وقت النزاع المسلح لكن ذلك لم يحدث مع أسماء وفداء.

عانت السيدة منوّر لاحقًا من الفَقد والتشريد والمجاعة التي اشتدّت على شمال قطاع غزة، معلّقة: “هو هادا أكل، إحنا بنضحك على حالنا، بعطونا سموم الله يستر بعد الحرب شو رح نشوف أمراض”، فرغم اختراع السيدات شمال القطاع العديد من الأطباق كالفلافل من البازيلاء، والشاورما بعلب اللانشون، لكنها لم تكن جيدة المذاق، ولا تعطي فوائد للجسم الذي يبقى هزيلًا.

تعاني منوّر من الغضروف الذي تفاقم خلال الحرب، فأصبحت تأخذ الوصفة الطبية تدور بها على الصيدليات بحثًا عن الدواء دون جدوى، فهو شحيحٌ في مخازن وزارة الصحة الفلسطينية، لافتة أن تكلفة علاج غضاريف اليد والظهر تقارب 300$ شهريًا، وهي بالكاد تستطيع توفير الغداء وتكلفة شحن البطاريات والهواتف.

“ما خلو النا اشي نستفيد منه”، تقول منوّر في إشارة إلى بيتها الواقع شرق حي الشجاعية، والذي تدمّر بنسبة 50% بفعل الهجمات الإسرائيلية، وحُرقت كافة محتوياته، ومع قدوم فصل الشتاء، فإن جميع أفراد العائلة أصبحوا بلا ملابس شتوية ولا أغطية تقيهم البرد.

تزداد معاناة منوّر باغتراب ابنتها ريهام (22 عامًا)، النازحة إلى جنوب القطاع برفقة زوجها محمود، وطفليها محمد وأحمد (4-3 سنوات)، وتنقطع الاتصالات بينهم لفتراتٍ بسبب صعوبة الاتصال، مضيفة: “حنا ببلد وحدة ومش عارفة أشوف بنتي وأحفادي وكل يوم أصعب من اللي قبله ويا ريت مبيّن الها آخر”.

إبراهيم: من الحدود تحت النار، إذا ما خاطرت مش رح آكل لا أنا ولا عيلتي

يعاني إبراهيم من الفقد كما باقي عائلته، فهو لا ينسى أدق التفاصيل التي كان يصلحها لوالدته أثناء حديثها، مشيرًا: “أقضي أربعُ ساعاتٍ يوميًا بحثًا عن حطب، وأستنزف ثلاثة بعدها لتعبئة المياه وإشعال الحطب من أجل الطبخ، نهارنا كالكابوس”، ولدى سؤاله من أين يجمع الحطب تنهّد وقال:” من الحدود تحت النار، إذا ما خاطرت مش رح آكل لا أنا ولا عيلتي”.

إبراهيم: شفت كيف البني أدم بنشوي بالنار، ضلوا الشبين مولعين من الضهر لبعد العصر

الحصار داخل ملعب فلسطين، كان أقسى التجارب التي عايشها إبراهيم، يوم 27 يونيو/حزيران 2024م، بعد ساعات الظهيرة، ومع إشعاله ووالدته النار لإعداد الطعام، قصف الاحتلال ثلاثة شبّان حاولوا الفرار بعد إحكام الحصار، واستشهدوا، يقول: “شفت كيف البني آدم بنشوي بالنار، ضلوا الشبّين مولعين من الضهر لبعد العصر”.

بعدَ أيامٍ، خفّ حصار الملعب، وتمكّن إبراهيم وعائلته من الفرار، والعودة إلى حي الشجاعية، مشيرًا إلى أنه يحظى دومًا بحصة الأسد في حمل حقائب الطوارئ، المخصصة للطعام والملابس، والتي أصبحت كل ما تملكه العائلة، لذا تحوّلت إلى كنزٍ ثمين.

أنهى إبراهيم الثانوية العامة، وقرر عدم الالتحاق بالجامعة لمساعدة والده في إعالة الأسرة، فقد كان يعمل في مخبزٍ قبل الحرب، وما أن دقّت طبول الحرب حتى أُغلق المخبز وفقد عمله.

وتنص المادة (39) من اتفاقية جنيف الرابعة، أنه يجب توفير فرص عمل للأشخاص الذين فقدوا عملهم بسبب الأعمال القتالية، كما تنص المادة (30) أنه لا يُسمح بفرض التجويع كعقاب جماعي مثلما يحدث شمال قطاع غزة.

بدورها تقول رغد أنها لم ترتدي الزي المدرسي سوى مراتٍ قليلة، وأنها حرمت حقها في مواصلة التعليم، لافتةً: “بتذكر هداك اليوم بابا حكالي ما في روحة ع المدرسة وضليت أبكي، يا ريت اجت ع يوم والا شهر، مش مصدقة أني صارلي سنة ما رحت المدرسة”، بينما تروي بحزن إن الزي الذي كانت تهتم بنظافته احترق ومعه كتبها وأوراقها.

رغد: (الرياضيات لعبتي، ياريت لو أعرف أتواصل مع معلمتي، الخط ما بلقط)

تهوى رغد العمليات الحسابية وفازت في عدة مسابقات محلية بالمركز الأول، تقول: “الرياضيات لعبتي، ياريت لو أعرف أتواصل مع معلمتي، الخط ما بلقط”، فهي فقدت التواصل مع غالبية صديقاتها، ولا تعرف أخبار سوى معلمتين، وبقي مصير مدرّسة الرياضيات الأحب لقلبها مجهولًا.

تتمنى رغد لو يمنحها أحدٌ دفترًا وانترنت، لتتمكن من دراسة الرياضيات عن بُعد، فهي مقومات لن تستطيع العائلة توفيرها، كما ترنو لقراءة أي كتاب، وأن تمارس الرسم والغناء، أي شيء يجعلها تشعر أنها على قيد الحياة، بينما تشعر بحالة من النسيان مؤخرًا نتيجة موجات الاكتئاب التي تتزايد مع غياب أي دعم نفسي.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى