نزحت هربًا من الموت بسببها أم زهير تتحدث عن المجاعة بغزة: “أكلنا العلف”
نزحت هربًا من الموت بسببها
أم زهير تتحدث عن المجاعة بغزة: “أكلنا العلف”
الزوايدة – هديل الغرباوي:
ذات مساءٌ باردٍ من شتاءِ ديسمبر، صرخَ أحفادُ السيدة أم زهير السمّوني من فرطِ الجوع، تنبش الجدّة حوائجها بحثًا عن بقايا طعامٍ يسد جوعهم، بينما ترمقها حدقات عيونهم في لهفةٍ وترقّب، لكن الحوائج خاوية، هزّت الجدّة رأسها بحزنٍ ونام الصغار جياعًا.
أم زهير: نزحنا عشان الصغار ياكلوا ويبطلوا صراخ ليل نهار
“ماذا أحدّثكم عن المجاعة، حربٌ أخرى ضربت مدينة غزة وما زالت مستمرة، نزحنا عشان الصغار ياكلوا ويبطلوا يصرخوا ليل نهار، كان زوجي وابني محمد يذهبان سيرًا على الأقدام مسافاتٍ تتعدّى كيلومترًا؛ بحثًا عن لقمةٍ تسدُّ جوع العائلة، ولكن يأتون بأيدي فارغة، ولأنني مريضة بالضغط والسكر؛ لم أتحمّل صراخ الصغار ليلًا ونهارًا، كنا عاجزين عن توفير الطعام”، تقول أم زهير.
كانت أم زهير وعائلتها تعيش في حي الشجاعية شرقَ مدينةِ غزة، وأصرّت على البقاء في مدينتها حين أجبر الاحتلال الإسرائيلي سكّان شمال قطاع غزة على النزوح إلى جنوبه يوم 13 أكتوبر/تشرين الأول 2023م، لكن إسرائيل فرضت مجاعة على شمال القطاع، وكانت عائلة أم زهير ضمن من عانوا منها.
تضع أم زهير يدها على خدِّها بحسرةٍ وتتنهد وهي تكمل: “زوجي أبو زهير كان قبل الحرب يحصل على قوتِ يومه من بيع اكسسوارات الهواتف النقّالة على رصيف الجامعة الإسلامية بغزة، إضافةً إلى المخصصات المالية من الشؤون الاجتماعية، ورغم العائد المادي الضئيل، لكنه كان يحمد الله، وعام 2023م، حصل على تصريحٍ للعمل داخل الخط الأخضر، ما جعل ظروفه المادية تتحسن قليلًا، حتى حلّت الحرب”.
كان آل السموني يعيشون في ثلاثِ بنايات متجاورة في حي الشجاعية، (أبو زهير وإخوته التسعة)، وجرّاء أوامر الإخلاء الإسرائيلية أصبحت تلك البنايات مكتظةً بالأقارب النازحين، الذين بلغ عددهم 120 نازحةً ونازحًا.
صباح السابع من نوفمبر/تشرين الثاني 2023م، الساعة 11 صباحًا، استهدفت طائرات الاحتلال الحربية بنايات عائلة السموني، أدت لارتقاء 35 شهيدة وشهيدًا وإصابة 50، وعَلَق البقية تحت الأنقاض، من بينهم أبو زهير وابنه زهير الذي أصيب بكسرٍ في الجمجمة ونزيف دماغي وأصيب بشللٍ كامل.
تبكي أم زهير بحسرةٍ على ابنها، تمسح دموعها وتكمل: “يومها بدأت رحلة عذابنا، نزحنا إلى مستشفى الشفاء غرب مدينة غزة لتلقي العلاج وبحثًا عن الأمان، اعتقدنا أن الاحتلال لن ينتهك حرمة المستشفيات، مكثنا حتى 13 نوفمبر/تشرين الثاني 2023م، حين حاصر الاحتلال المستشفى، وخرجنا تحت الرصاص”.
غادرت العائلة عبر البوابة الخارجية للمستشفى نحو منزل ابنتهم في حي الرمال غرب مدينة غزة، وبعد ثلاثة أيام نزحوا إلى منزل ابنتهم الثانية وسط المدينة، مكثوا فيه شهرًا ثم نزحوا إلى عيادة وكالة الغوث في جباليا شمال القطاع، وبعد استهدافها نزحوا مجددًا صوب منزل خالتهم وسط مدينة غزة، عادوا للنزوح إلى مستشفى الشفاء، ثم إلى منزل أحد أقاربهم في بيته المقصوف غرب مدينة غزة مدة شهرين.
تواصل السيدة التي تعيش حاليًا في خيمةٍ بمنطقة الزوايدة وسط قطاع غزة: “نزحنا لاحقًا إلى منزل ابنتي في حي الشيخ رضوان، ومنه إلى الجنوب يوم 13 يوليو/تموز 2024م، حيث نعيش في هذه الخيمة”.
أبو زهير: فرحنا كثير لما أكلنا الجاج والبندورة زي العطشان في الصحراء ولقى شربة مية
قطع أبو زهير حديثها وتكلم بحرقةٍ: “ما زلت أتذكّر اليوم الذي نزحت فيه إلى هنا، وتناولت لأول مرة الدجاج والفواكه والخضراوات التي لم يتذوقها جسدي منذ بداية الحرب”.
يتنهّد ثم يزفر بشدّة ويكمل: “تناولنا الدجاج والفواكه والخضار، كأننا أول مرة نتناولها في حياتنا، كنا فرحين رغم شعورنا بالخجل ونحن نأكل هذه الوجبات أمام بناتنا النازحات من قبلنا، فرحنا كثير لما أكلنا الجاج والبندورة زي العطشان في الصحراء ولقى شربة مية”.
عاد أبو زهير لمواصلة حكايته: “بعد انهيار سقف البيت فوق رأسي، فقدت مصدر رزقي، ووجدت نفسي أنا وعائلتي في الشارع بجيوبٍ فارغة، لا أملك ثمن قوت يومي، مددت يدي للناس إلى حين ميسرة، اقترضت من إخوتي وأخواتي وأقاربي، وبدأت الديون تتضاعف والدنيا تضيق، حتى أمست أضيق من خرم إبرة”.
بمرور الأيام، بدأ الناس يطلبون ديونهم، حاول أبو زهير التهرّب، لكن في الحقيقة كان يحاول تدبّر أموره بمبلغٍ ينشأ منه بسطة تكون مصدر دخل له، يقول: “أصبحت أركض في كل مكان وأطرق الأبواب بحثًا عن كوبونة أو سلة غذائية أو مساعدة مالية، الحرب في غزة بدأت تأخذ منحى أكثر قسوة، والخضراوات والسلع التموينية تنفد من الأسواق، وتوقّف عمل المؤسسات التي تقدّم المساعدات، وبدأت المجاعة”.
توقّف الرجل عن الحديث، بينما تابعت أم زهير الكلام: “بعد نفاد الطحين، اضطررنا لشراء علف الحيوانات بديل عنه لعمل الخبز، (أكلنا العلف بدل الخبز)، كان سعر كيلو العلف 100 شيكل- نحو 25 $، ولكن بعد تدفئتِه بالمياه والشروع في الخبيز نكتشف أن العلفَ مغشوشٌ ولا يصلح للخبز، ويختفي البائع من السوق عند محاولتنا إرجاع بضاعتِه المغشوشة”.
تضيف: “بسبب صراخ أحفادي طيلة الوقت، وتحت وطأة الجوع، كنا نُشعل الحطب لعمل شوربة الصلصة، نتناولها صباحًا ومساءً، بالإضافة إلى أكلاتٍ مكوناتها من الحشائش التي تنمو بين المقابر مثل أكلة الحميض، والسليق، وإذا كنا محظوظين نتناول الخبيزة”.
أم زهير: الدكاترة ما لقوله وريد يحطوا فيه المحلول من كتر الجفاف
“كانوا يبيعوا السَلق الضمة الصغيرة بخمسة شيكل، كنا نعمل السليق سماقية دون أي من مكوناتها مثل الطحينة والحمص والسماق واللحمة، نستخدم الفيجتار (بقسماط قلي الدجاج)، نقوم بطحنه وتحويلة إلى عجينة نقليها بالزيت ليصبح طعمها كالخبز، وفي شهر رمضان نتحايل على الجوع بالنومٍ لفتراتٍ طويلة، حتى موعد الآذان نطبخُ حشيشيًا لا يشبع ولا يفيد”، تقول أم زهير.
وحين أصيب حفيدها البالغ عامًا ونصف بالجفاف بسبب سوء التغذية، وانقطاع الحليب، حملوه إلى المستشفى، ولكن تعقّب: “الدكاتره ما لقوله وريد يحطوا فيه المحلول من كتر الجفاف، فأجروا عملية صغرى وفتحوا أحد أوردة العنق”.
وبسبب صراخ الأطفال المتواصل جوعًا، اضطرت العائلة إلى النزوح إلى جنوب قطاع غزة، يوم 13 يوليو/تموز 2024م!
ويخالف ما تعرّضت له عائلة أم زهير بنود اتفاقية جنيف الرابعة الخاصة بحماية المدنيين وقت الحرب، والتي تحظر التهجير القسري للمدنيين، كما تطالب في مادتها (23) حرية مرور أي رسالات من الأغذية الضرورية والملابس، كما تفرض في مادتها (39) توفير فرص عمل لمن فقدوا عملهم بسبب الحرب.
ويعدّ القانون الدولي الحق في الغذاء، حقًا أصيلًا، إذ تؤكد المادة (25) من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، حق كل فرد في مستوى من المعيش يكفي للمحافظة على الصحة والرفاهية له ولأسرته، كما أكد العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية في مادتيه (2-11) ضرورة اعتراف الدول وتعهدها بالعمل على الحفاظ على هذا الحق.
وكانت الأمم المتحدة، أعلنت في بيان رسمي نُشر على موقعها الالكتروني يوم 9 يوليو/تموز 2024م، أنّ وفاة المزيد من الأطفال الفلسطينيين مؤخرًا بسبب الجوع وسوء التغذية، لا يترك أي مجال للشك في أنّ المجاعة قد تفشّت في جميع أنحاء قطاع غزة.
أبو زهير: مرة وحدة قدر ابني محمد يلملم شوية طحين من المنثور على الأسفلت
هنا توقّفت أم زهير، واغرورقت عيناها بالدموع، ليكمل أبو زهير: “كنا نصلي الفجر ونروح على دوار النابلسي عشان المساعدات، رغم المخاطرة الكبيرة واستهداف الاحتلال للمكان والعصابات المحلية التي حرمت الناس من الحصول على أكياس الطحين، كنا نلاحق الطائرات التي تلقي المساعدات بالبراشوت، لكن محاولاتنا باءت بالفشل، باستثناء مرة وحدة قدر ابني محمد يلملم شوية طحين من المنثور على الأسفلت”.
قاطعت الطفلة غدير (15 عامًا) والدها، محاوِلة تلطيف جو الحوار مازِحة: “بابا نزل وزنه 12 كيلو، وماما نزلت 40 كيلو، وأنا 20، كلّنا خسّينا”.
لكن الطفلة التي ما زال يؤلمها الحرمان من الذهاب إلى مقاعد الدراسة، تقول إن الأمان بات مفقودًا والمستقبل أصبح مظلمًا أمامهم، لكن تجربة المجاعة ستظّل أسوأ ما عايشته في حياتها.
هنا يختم والدها: “بعد كل ما جرى، قررنا النزوح إلى الجنوب، عبرنا حاجز نتساريم ونزلنا ضيوفًا على خيمة ابنتي في الزوايدة، وما زلنا، ومنذ ذلك اليوم وأنا أناشد المؤسسات الدولية توفير خيمةٍ لي ولعائلتي، ومبلغ بسيط نتدبر فيه أمورنا بإنشاء بسطة من أجل توفير نفقات العائلة الأساسية”.