غبار المدينة يملأ عيون الأكاديميات!
كتبت رئيسة مجلس إدارة مركز التنمية والإعلام المجتمعي هداية شمعون
أذكر جيدًا تلك الحماسة منقطعة النظير التي سرت بين عضوات هيئة الأكاديميات في غزة حين كنا في لقاء مع إحدى المؤسسات الحقوقية؛ شغف كبير بالمعرفة، تأنقٌ وتألق وحب اكتشاف والتقاء بأقران خارج الإطار الأكاديمي، صور فوتو
غرافية عديدة تُلتقط وحماسة كبيرة للتعريف بالهيئة الوليدة التي رأت النور في غزة قبل حرب الإبادة الجماعية بعد سنوات عمل مضنية…!
الآن، وبعد عشرة أشهر من الحرب وبدايات الشهر الحادي عشر، أتساءل بألم: ماذا حل بالأكاديميات في غزة؟ وأين هي مباني الجامعات؟ وأين هي حفلات التخرج التي تبدو كمهرجانات أسرية أكاديمية للطالبات والطلبة، تغني غزة كلّها وتنشد فرحًا لهم وبهم؟ أين هم الطلاب والطالبات المسحوقون في نير الحرب؟؟ أين الحياة الجامعية والأكاديمية التي كانت في تطور وتألق مستمر…! لقد نالت الحرب من المنظومة التعليمية بأكملها في قطاع غزة، فهي بحقّ كانت إبادة لكل مكونات المسيرة التعليمية بكل مراحلها…!
يصلني صوت الصديقة حنان صيام “دينامو هيئة الأكاديميات” – أسميتها في الحرب وردة الأكاديميات- فهي تشتاق لأجواء الحماسة والتنقل بين الجامعات ومركز التنمية والإعلام المجتمعي، وهي تواقة لأن ترسو سفينة السلام لقلبها بعد أن نزحت 7 مرات متتالية في مناطق مختلفة في غزة وشمالها، عانت من مشهد حرق بيتها الذي بنته حجرًا حجرًا لتضم فيه أحفادها.. صوت حنان وابتسامتها يخترقان كل الألم ليتجدد الشغف بأن نعيد بناء كل ما فقدناه، لكن لتتوقف الحرب أولًا…!
تقول حنان في سردها لحياتها التي انقلبت رأسًا على عقب: “أول مرة أطلع من البيت وأبعد، اتحركت لشغل على جباليا، والله بكيت من المناظر، معالم مخيم جباليا انمحت ما عرفت شرق من غرب، رحلة النزوح المفاجئة تحت القصف، وين بدك تروح؟ وشو بدنا نحمل من معلبات، مواد التنظيف التي شحت من الأسواق والقليل الموجود أسعارها تضاعف، في ظل انتشار الأمراض مجبرين نشتريها ونحملها، وملابسنا اللي جددناها أكثر من خمس مرات بعد فقدانها في كل مرة؟ عن إيش أحكي أو أحكي؟!”
وتضيف:” نزوح يعني ريحة الموت أقرب من رمش العين، نزحنا للمرة السابعة تحت ضرب الطيران الحربي الإسرائيلي، حزنت على الناس أكثر من نفسي، رجال بتبكي اللي حامل ابنه شهيد بيجرى، والكل بيجري مع صغاره، والكل بيركض وبيسأل: وين نروح؟!”.
أما عن بيتها فتقول حنان وقد نشرت صورتين له أحداهما بيت جميل والثانية للبيت ذاته محترقًا: “كانت هنا قبل 7 اكتوبر أجمل الأيام، وأجمل الذكريات، بيت أخد شقا العمر كله، تركنا البيت يوم 10 أكتوبر فجأة، تركنا أرواحنا وذكرياتنا ومستقبلنا وغادرنا، كنا نتأمل العودة خلال أيام لكن تحول البيت لسواد وسَكَن، وأصبح شكله مرعبًا. حسبنا الله ونعم الوكيل”.
أما عن هيئة الأكاديميات فتقول حنان:
“من خمس سنوات ماضية ونحن نعمل سويًا كي نتوج هيئة الأكاديميات.. لم ندخر جهودنا في مركز الإعلام حيث حددنا أولوياتهن وقمنا بتنظيم عدة مجموعات منهن في شمال غزة وجنوبها وتعريفهن ببعضهن وواقعهن الأكاديمي والاجتماعي، لقد كان حلمًا وقد تحقق بجهود الجميع، الأكاديميات وطاقم مركز التنمية والإعلام المجتمعي في غزة”.
تضيف حنان: “عشت كل لحظة بأحكيها الآن! ما كنت بأعرف أنه ح ييجي يوم وأتمنى أني أرجع للعمل بين الأكاديميات، وأنه مرت عشرة أشهر كاملة واحنا في واقع مختلف بنركض من مكان لمكان بفعل النزوح، وكل اللي بنفكر فيه كيف ننجو بحياتنا وحياة أبنائنا وأطفالهم، اشتقت كثير أني أرجع لما قبل الحرب، وألتقى مع كل الصديقات الأكاديميات، أكيد هادي أمنيتنا جميعًا، طبعًا التقينا في الحرب بعد وقت طويل، وكل واحدة فينا عندها قصة وجع وألم وفقد مختلفة”.
معاناة ممزوجة بالقهر!
أما الأكاديمية علا حلس فتقول عن معاناتها في حرب الإبادة على غزة: “أنا أرملة عندي 3 أولاد و3 بنات، ابني البكر متزوج وهاجر قبل الحرب، وترك زوجته الحامل وبنته بأمانتي، وشاء القدر أن تكون زوجته حامل بتوأم، وأصبحت متطلبات ومصاريف الحمل والأطفال بمسؤوليتي وربنا يسرها وساترنا”. وتضيف بألم وقهر:
“نزحنا وتعرضنا للموت أكثر من خمس مرات، تدمرت شقة ابني تدمير كلي، وشقتي متضررة بشكل كبير، وسلفي استشهد في بيتنا…! نزحنا على الزوايدة ثم خان يونس ثم رجعنا للزوايدة ثم تعرضنا للموت بمكان نزوحنا ونزحنا لرفح، وبعد شهر رجعنا الزوايدة ثم تعرضنا لهجوم ونزحنا للدير بخيمة، ولم أستطيع أن أتحمل حياة الخيم فرجعت للزوايدة وحتى الآن أنا بها”.
وتكمل حلس وتنهيدة تطال صوتها: “كان إلنا بالهيئة طموحات كبيرة نحو دور المرأة الأكاديمية في الريادة والإدارة وصناعة القرار، وكانت الهيئة تقوم بكافة النشاطات والفعاليات لدعم حقوقنا الأكاديمية، كان حلمنا كلنا اللي بدأ يتحقق، وحاليًا بالحرب أصبح هدف كل أكاديمية الأساسي والأسمى هو المحافظة على حياتها وحياة أسرتها وحمايتها وتقديم الخدمات لأسرتها، عنّا الرغبة والاستعداد للتعاون ومساعدة غيرنا كأكاديميات وكنساء فاعلات في مجتمعنا، واحنا مستعدات لتقديم الدعم والمساعدة لأن الحاجة كبيرة بغزة وكل الفئات صارت بحاجة للدعم والاسناد”.
“الحرب أعطتنا عمرًا أكبر من عمرنا”
تقول الأكاديمية نداء العمور من جامعة القدس المفتوحة، وهي في هيئة الأكاديميات الفلسطينيات: “الحرب أثرت كتير علينا، نزوح من مكان لمكان بحثًا عن مكان قد يكون أكثر أمانًا، مكان ونوم غير مريح، فراش ووسادة غير مريحة، حتى الحركة داخل الخيمة كانت صعبة، الطقس أيضًا أثر علينا، فشتاء قارس ولا ملابس للتدفئة أو صيف حار جدًا ولا كهرباء ولا تهوية أو مراوح، حرب إبادة مع نزوح متكرر مع طقس حار حاليًا جعل نفسياتنا صفرية صعبة، ولا يطاق ما نعيشه بعد أن كنا آمنين في بيوتنا ولدينا كل ما نريده ونعمل ونعلم الأجيال الشابة، ونتطلع للتقدم في حياتنا، لقد نزحنا بدون أدواتنا، بدون ملابس بديلة، القلق طيلة الوقت من حركة الطيران الإسرائيلي، الكلاب منتشرة بشكل مفزع ومخيف، اللصوص ينهبون في كل مكان، فالحرب تعني الفوضى، الذباب والبعوض والحشرات في كل مكان حولنا، فلا نظافة شخصية متوفرة أو أدوات التنظيف أو الماء، وما يتوفر من ماء هو غير صحي وملوث، ورغم ذلك نشربه لأنه لا خيار آخر لدينا ..!! وإن وجد يجب عليك أن تشتريه ونحن غير قادرين على الشراء كل يوم، فحاليًا لا عمل ولا سيولة متوفرة في غزة كلّها، لا يوجد سوى بنك واحد وغير متاحة السيولة دائمًا، ناهيك عن الازدحام الشديد. الحرب أعطتنا عمر أكبر من عمرنا”.
وتنهي العمور حديثها بمرارة قائلة: “قبل الحرب كنت بجامعة الأقصى- غزة، حصلت على شهادة الماجستير من جامعة القدس المفتوحة، وكنت متحمسة وأستعد لدراسة الدكتوراه، اليوم الحرب غيرت مصائرنا، وبدل ما أكون في جامعتي وبأدرس طلابي أو بألتقي مع زميلاتي الأكاديميات ونسعى لتحسين أدوات حصولنا على حقوقنا كأكاديميات إحنا بنحاول ننقذ عائلاتنا، أو حتى لقاءنا صار بعد طول فترة الحرب لنقوم بتفريغ نفسي من الأهوال والجرائم اللي عشناها وشفناها”.
هيئة الأكاديميات الفلسطينيات ما قبل الحرب!
تشكّلت هيئة الأكاديميات الفلسطينيات كتتويج لجهود مثمرة وطويلة بذلها مركز التنمية والإعلام المجتمعي، بدءًا من ورقة بحثية حول الصعوبات التي تواجه الأكاديميات ومظاهر التمييز المجتمعي تجاههن في أحد مؤتمرات المركز، ليتوج النقاش وتبادل الأفكار والعصف الفكري مع الأكاديميات بالتعبير عن ضرورة إعداد دراسة بحثية معمقة حول واقعهن، وبالفعل، رأت الدراسة النور بجهود المؤمنات بالفكرة والغاية والمتطلعات للأمام، ثم انتقلنا خطوةً متقدمة تفيد بضرورة أن يكون هنالك ائتلاف أو هيئة تضم الأكاديميات وتطالب بحقوقهن وتساندهن للوصول للعدالة الجندرية، وترفع عنهن التمييز وانتقاص الحقوق، وتكللت الجهود بإنشاء هيئة الأكاديميات الفلسطينيات في غزة وفتح الباب للعضوية، والانضمام لها في كافة الجامعات الفلسطينية في قطاع غزة.
لقد تمكن مركز الإعلام المجتمعي من وضع بصمته المميزة والنوعية على تأسيس هيئة الأكاديميات الفلسطينيات ومن خلال اللجنة التحضيرية للهيئة. بدأت ملامح هذه الهيئة في الظهور خاصة مع التشبيك والتنسيق مع العديد من الجهات الأكاديمية ومؤسسات المجتمع المدني، وإلى جانب جهود طاقم العاملات في هذا المركز وأكاديميات وباحثات كن يدًا واحدة في تحقيق هذا الواقع، على الرغم من كل التحديات المجتمعية والسياسية والأكاديمية…
لقد سبق وأطلقت الخطة الإستراتيجية لهيئة الأكاديميات الفلسطينيات، وتم توقيع مذكرات تفاهم وتعاون مثمر مع الجامعات الفلسطينية في قطاع غزة، وتم أيضًا إعداد مدونة أخلاقيات وقواعد سلوك لحماية حقوق المرأة وتعزيزها في المؤسسات الأكاديمية.
وعلى مستوى الإنتاج المعرفي، تم إجراء دراسة لتقييم الاحتياجات وتعزيز أدوات مناهضة التمييز ضد المرأة ومناصرة حقوقها في المؤسسات الأكاديمية، وإعداد دراسة نوعية خاصة بواقع الأكاديميات والاحتياجات الرئيسة لتحسين حقوق المرأة في المؤسسات الأكاديمية والأدوات والآليات التي تدعم مكافحة التمييز على أساس النوع الاجتماعي فيها، وأعقبتها دراسات أخرى لتحسين الوصول لحقوق الأكاديميات في الجامعات الفلسطينية، وفي إطار التعريف بالهيئة وتفعيل دورها تم تنفيذ جولة من الزيارات لعَشر مؤسسات أهلية ومجتمعية، وتوقيع عدد من مذكرات التفاهم مع رؤساء الجامعات في غزة، لتعزيز دور الأكاديميات، ودعم تنفيذ نشاطات متعلقة بمناهضة التمييز ضدهن.
دعم نفسي واجتماعي رغم الإبادة!
أما وقد أكلت الحرب الأطفال والنساء والمدارس والجامعات والبيوت والمدن، فقد عدنا نلتقط أنفاسنا ونبدأ مرة أخرى محاولة البقاء والنهوض بأحلامنا الكبيرة التي وثقنا معًا أن بإمكاننا تحقيقها، جاءت الحرب وأعادتنا للبدء من جديد، فما بين نزوح قسري متكرر وقتل واستهداف متواصل وخيام وتقطيع أواصر العائلات وانقطاع عام دراسي كامل لطلبة الجامعات والمدارس، فإن غبار المدينة يملأ عيون الأكاديميات، لكنهن لا يفقدن الأمل، لذلك نعود من جديد وننهض ونحاول، وسنعمل من خلال مركز التنمية والإعلام على تقديم خدمات الدعم النفسي الجماعي والفردي لأكثر من (100) أكاديمية وصحافية ومحامية وناشطة في حقوق المرأة، كما يجري التحضير والإعداد لتنفيذ أيام ترفيهية وجلسات إسعاف أولي وجلسات دعم نفسي فردي وجماعي للتخفيف من الضغوطات النفسية الناتجة عن حرب الإبادة الجماعية على غزة.
كما يعمل المركز على دعم الأكاديميات بالحدود الممكنة والمتاحة، حيث تم توزيع حقائب “كرامة” التي تضم مستلزمات صحية وأدوات نظافة شخصية للنساء، خاصة أن هذه الأدوات شبه مفقودة من السوق المحلي، وإن توفّرت تكون بأسعارٍ خيالية لا تستطيع النساء توفيرها.
وقد لاقت تلك الجلسات قبولًا وإقبالًا من النساء نظرًا لما يتعرضن له من انتهاكات صارخة لحقوقهن كافة وتعرضهن للضغط والصدمات والخوف وعدم الأمان والنزوح المستمر الذي أثقل كاهلهن وكاهل عوائلهن مما زاد من الضغوطات النفسية عليهن، وهذا ما ذكرته منسقة المشروع في غزة الجميلة المبدعة إيمان زعرب التي تواصل عملها بخفة ورشاقة رغم القهر والوجع والنزوح الذي نالها كما نال كل الأكاديميات في قطاع غزة، حيث يعمل طاقم المركز في ظروف قاسية للغاية وتعاني عضواته من النزوح المتكرر أسوة بالجميع، ومن أبرز الصعوبات التي تواجههن كما تقول إيمان:
“المخاطرة وعدم الأمان، وصعوبة الاتصالات بالفئات المستهدفة، مع تعطّل شبكة الاتصالات وكذلك شبكة الإنترنت، وصعوبة التنقّل والمواصلات وأحيانًا انعدامها، إضافة إلى حالة النزوح المتكرر للفئات المستهدفة، وسفر عدد كبير أعضائها، وارتفاع أسعار المستلزمات والأدوات اللازمة للأنشطة، إضافة إلى الدمار الهائل في البنية التحتية والمؤسسات”.
لقد “عدنا والعود أحمد”. على الرغم من استمرار الحرب ودخولها الشهر الحادي عشر فإن القيام بشيء أفضل من الارتهان لعجز اللحظة وموت قريب، لذلك يعمل طاقم مركز التنمية والإعلام الاجتماعي على استكمال العمل في مختلف مناطق قطاع غزة.
ليست هيئة الأكاديميات الفلسطينيات ما بعد الحرب كما قبلها، إلا أن أهدافنا واضحة أمام أعيننا، وسنبقي أيدينا وأرواحنا لأجل أحلام أصبحت حقيقة، وحقيقة الحرب الآن تجعلنا نضع أمام أعيننا أننا سنحول كابوس الحرب الذي دمر كل ما هو جميل إلى دعم ومؤازرة للأكاديميات وعائلاتهن، وإبقاء جذوة الشغف مستمرة لأجل النهوض بالواقع الأكاديمي مرة أخرى. ولتقف الحرب الآن الآن!