أكاديمي أنهكه المرض.. “أريد عائلتي”
دير البلح- هبة أبو عقلين:
داخل خيمةٍ قماشيةٍ شديدة الحرارة، يجلس د. سمير حرارة (63 عامًا)، متكئًا على فرشته المهترئة، متأملًا معاناته مع حال النزوح ووضعه الصحي الذي تدهور بسبب الحرب.
د. سمير حرارة، هو أستاذٌ جامعي متخصص في البيئة وعلوم الأرض، يسكن حي الفتاح وسط مدينة غزة، أصيب بمرضِ الفشلِ الكلوي قبل أربعة سنوات، وكان مواظبًا على جلسات غسيل الكلى، وملتزمًا بنظامٍ صحيٍ صارم، حتى شنّ جيش الاحتلال الإسرائيلي الحرب على قطاع غزة يوم 7 أكتوبر 2023، وتغيّر كل شيء.
يسند الأستاذ الجامعي ظهره إلى عمود الخيمة وهو يقول: “أمضيت 20 يومًا في بيتي بحي التفاح بعد اندلاع الحرب دون غسيل الكلى، بسبب القصف المستمر والخوف من التنقّل واستهداف المركبات، ارتفعت نسبة السموم في جسمي يومًا بعد يوم، وظهرت عليّ تغيرات مثل انتفاخ الجسد”.
توجّه الدكتور حرارة بصعوبةٍ إلى مستشفى الشفاء غرب مدينة غزة، ولكن كان الوقود قد نفد من محطة الكهرباء الوحيدة في القطاع، وتناقصت المواد الطبية وبدأت المنظومة الصحية بالانهيار، وتزامن عدم قدرة المشافي على العلاج، مع أوامر الجيش الإسرائيلي بإخلاء مستشفى الشفاء.
يطالعُ الدكتور حرارة على هاتفه النقّال صورًا لمحاضرات طالما ألقاها على الطلبة حين كان يتمتع بوافر الصحة، يهزّ رأسه حزنًا ويزفر بعمق وهو ينظر إلى آثار الإبر التي تركت بقعًا داكنةً على يديه.
يكمل: “في ليلة دامية بتاريخ 2 نوفمبر 2023، هرع الناس إلى الشوارع هربًا من الغارات الإسرائيلية المتواصلة بجانب مستشفى الشفاء، اضطررت للنزوح مع حفيدي مالك إلى جنوب قطاع غزة، وتحديدًا مستشفى ناصر في مدينة خانيونس، لاستكمال علاجي”.
وكان جيش الاحتلال الإسرائيلي أجبر مئات الآلاف من سكان شمال قطاع غزة على النزوح إلى الجنوب، في تناقض مع اتفاقية جنيف الرابعة الخاصة بحماية المدنيين وقت الحرب، التي حظرت النقل القسري للمدنيين.
ينظر الأكاديمي السابق إلى حفيده البالغ (12) عامًا وهو يكمل: “مكثت مع مالك في مستشفى ناصر بمدينة خانيونس 70 يومًا، مستأنفًا علاجي في قسم غسيل الكلى، كانت أيامٌ ثقيلة على قلبي كوني تركت عائلتي في غزة وبقينا أنا ومالك وحدنا، لكن بعدما طالب الاحتلال بإخلاء المستشفى أواخر يناير، اضطررنا للمغادرة رغم وضعي الصحي المنهار والذي يحتاج للعلاج الدائم، وانتقلت إلى دير البلح لمواصلة العلاج بمستشفى شهداء الأقصى”.
ويتنافى استهداف القطاع الصحي مع بنود اتفاقية جنيف الرابعة وخاصة المادة (١٨) التي تحظر الهجوم على المستشفيات، كما تفرض الاتفاقية ذاتها توفير الرعاية الطبية للمرضى وخاصة النساء والاطفال وكبار السن.
يشير د.حرارة إلى التراب في خيمته، والحشرات المحيطة بها، والمياه الملوثة وغير الصالحة للشرب، وعدم توفرها أصلًا في كثير من الأحيان، كل ذلك غير مناسب لمريض فشل كلوي مثله، حتى الازدحام السكاني وتلوث الهواء، وصعوبة التنقّل من وإلى المستشفى نتيجة عدم توفّر الوقود، كل ذلك كان شاقًا عليه.
يكمل: “أيضًا أعاني من قلة الأدوية والمستلزمات الطبية لمرضى الفشل الكلي، قبل الحرب كنت أغسل ثلاث مرات أسبوعيًا، أربع ساعات لكل جلسة، وبجانبي عائلتي، الآن فقط جلستان أسبوعيًا وبواقع ساعتين ليسوا كافيات لتنقية الدم داخل جسمي، دون عائلتي، ومع حالة قلق واضطراب دائمين، فالمجاعة التي يعيشون فيها تؤثر سلبًا على وضعي النفسي”.
يتنهّد بقلب مكسور وهو ينظر مجددًا إلى مالك، ويكمل: “حُرم مالك من حضن أمه وأبيه لأنه رافقني في هذا النزوح الاضطراري، يبكي باستمرار اشتياقًا لعائلته، أحاول أن أجد سبيلًا لالتئام العائلة وتهدئة شوقه، أتألم كلما رأيته يبكي، لكنه السند الوحيد الذي أتكئ عليه أثناء الغسيل الكلوي”.
يستثقل الأكاديمي حرارة حياته دون عائلته وأبنائه وأحفاده، ظنّ أن الحرب لن تطول، وأنها ربما تنتهي سريعًا، لكن طال الغياب وزاد الشوق لعائلته التي بقيت شمال قطاع غزة.
يختم: “أملي أن تنتهي الحرب سريعًا، وينتهي كل هذا الألم والظروف القاسية والعذاب النفسي والألم الجسدي، أحيانًا أشعر أنها أيامي الأخيرة، وأريد أن أكون بين أبنائي وأحفادي”.