فايروس (c) .. نيران تلتهم كبد أحمد دون علاج
رفح – هديل الغرباوي:
دأب الفتى أحمد حجازي (15 عامًا) على الذهاب يوميًا إلى العيادة الطبية داخل إحدى مدارس وكالة غوث وتشغيل اللاجئين (أونروا)؛ لإجراء الفحص الطبي!
حرص موظف الاستقبال في العيادة الطبيةِ على إقصاء أحمد بعيدًا عن الطابورِ الطويلِ المصطفّ أمام العيادة، وتحذير المرضى من الاقتراب منه أو لمسه، كونه يعاني من فيروس (c) التهاب الكبد الوبائي (وهو إصابة فيروسية شديدة العدوى، تصيب الفرد نتيجة لتناول طعام أو شراب ملوث، وينتقل عبر المخالطة القريبة لأشخاص يحملون المرض، وعلاجه عبر حمية غذائية والتزام النظافة الشخصية)!
حين فرغ الموظف من تحذيراته، كانت أنظار الجميع تتجه صوب أحمد بشفقةٍ وخوف، بينما يعاني الفتى من إعياءٍ تام في جسده الضامر، وثمة اصفرار يكسو وجهه النحيل وبثور تنتشر بين أصابعه.
يقول أحمد: “أشعر أنني جرثومة كبيرة تقف على قدمين وتتحرك بين الناس، لا أعلم كيف يمكنني التخلص من هذا المرض اللعين، معاناتي الأكبر تكمن في عزلتي التي فرضها عليّ الجميع خوفًا من العدوى”.
باتت المدرسة باهتةً أمام ناظري أحمد بعدما تحوّلت إلى مركز إيواء يضم آلاف النازحين والنازحات، ومن بينهم عائلته التي نزحت قسرًا من منطقة مشروع بيت لاهيا شمال قطاع غزة، إلى محافظة رفح جنوبًا، بعدما أجبرهم الاحتلال الإسرائيلي منذ بدء حربه على قطاع غزة في 7 أكتوبر 2023 على النزوح إلى جنوب القطاع، في مخالفة لبنود اتفاقية جنيف الرابعة التي تحظر النقل القسري للمدنيين وقت الحرب.
يقطن أحمد وعائلته منذ بداية الحرب داخل أحد الفصول المدرسية التي ينتشر فيها الذباب والحشرات المتجمّعة حول بقايا الطعام المتناثرة في زوايا الصف؛ حيث تجتمع خمس عائلات من أبناء وبنات العمومة، لا يفصل بينهم سوى ستائر من قماش.
في كل زاوية داخل الفصل، يتمركز دلو بلاستيكي يُستخدم كمرحاض في ظل اكتظاظ دورات مياه مركز الإيواء، ما يؤدي إلى انتشار الحشرات والذباب والأمراض.
حاولت عائلة أحمد المكوّنة من (9) أفراد البحث عن شقةٍ أو مخزنٍ لاستئجاره دون جدوى، بسبب الارتفاع الشديد في الأسعار والتي لا تتناسب مع داخل والده، الذي كان يعمل عامل بناءٍ والآن يعتاش على المعونات.
يتابع أحمد، ونظره إلى أسفلِ قدميه بينما يحكّ رقبته بين فينة وأخرى: “لا أذكر متى أُصبت بالفايروس، ولكن أعرف جيدًا أن كل ما حولي ملوث، مياه الشرب داخل الصهاريج المتسخة، القمامة المكدّسة بالمكان، أسراب الذباب والحشرات التي تحوم فوق أطعمة التكايا وأدخنة الحطب، إلى جانب تناول أطعمة مكشوفة فلا يوجد أكياس بلاستيكية أو أطباق لتغطية الطعام، حتى اطعمة التكايا التي توزّع داخل المدرسة تكون مليئة بالشعر الآدمي، وتناول المعلّبات التي لا تصلح للبشر”.
وفق منظمة الصحة العالمية، ومكتب الاعلام الحكومي في قطاع غزة، فقد تجاوز عدد الإصابات بالأمراض المعدية 700 ألف حالة نتيجة النزوح، بينهم نحو 8000 حالة مصابة بالتهاب الكبد الوبائي.
مصطفى حجازي، والد الطفل أحمد يكمل الحديث عن ابنه: “فجعنا بسماع خبر وفاة أول مريض بالكبد الوبائي في القطاع، لا أعلم كيف يمكنني مساعدة طفلي أحمد ولكننا نفعل ما بوسعنا”.
عن إصابة ابنه يقول: “ذات يوم استيقظنا على صراخ أحمد وهو يشكو من آلام مفاجئة في معدته، وانتابه اصفرارٌ حاد في عينيه، حملته إلى العيادة، وبعد إجراء الفحوصات الروتينية وقياس درجة الحرارة وضغط الدم، تم تحويله إلى مستشفى أبو يوسف النجار لاستكمال الفحوصات، وبعد إجراء صورة التراساوند تبين إصابته بنسبة مرتفعة من التهاب الكبد الوبائي”.
حين أجرى والد أحمد الفحوصات لابنه؛ كانت تتدفق أمامهم عشرات الإصابات يوميًا كما يؤكد، ما جعله وأحمد يشعران بالمزيد من القلق.
“بعد فحص جميع الحالات وتشخيصها بالكبد الوبائي، يتم صرف دواء تروفين (مسكّن للآلام فقط)، ومن ثم يلقي الطبيب محاضرةً حول النظافة الشخصية في بيئة تفتقر لأدنى مقومات النظافة، ثم طلب منّا التوجّه للمدرسة لاستلام حقيبة أدوات نظافة شخصية وطرد غذائي مليء بالتمور”، يقول والد احمد باستنكار.
وتضمن اتفاقية جنيف الرابعة الحق في تلقي الرعاية الصحية المناسبة للأطفال والمرضى وقت الحرب، وعدم استهداف المستشفيات وأماكن الاستشفاء.
عودة إلى أحمد الذي أمسك بضع حبّات من التمور وألقاها في فمه ربما يبرأ بحلاوتها من الكبد، بينما يختم حديثه: “أتمنى أن تنتهي معاناتنا وأتعافى وتتوقف الحرب وأعود إلى بيتي ومدرستي”.