كاد طفلها أن يفقدَ حياتُه بسبب الأزمة شحُّ المياه في المخيم حربَها اليومية.. دلال: “بتكفيش”
كاد طفلها أن يفقدَ حياتُه بسبب الأزمة
شحُّ المياه في المخيم حربَها اليومية.. دلال: “بتكفيش”
دير البلح – خديجة مطر
في طابورٍ طويل؛ وتحت أشعةِ الشمس الحارقة، تقف الفلسطينية دلال أبو البري (34 عامًا) حاملةً جالوناتِ مياهٍ فارغة، بانتظار دورها من أجل التعبئة، ترقب الشابة بتعبٍ التحرّك البطيء للطابور الذي أصبح جزءًا من حياتها اليومية، منذ نزوحها من شمال قطاع غزة؛ إلى جنوبه!
“قبل مدّة كاد طفلي عمر أن يفقد حياتَه تحت عجلاتِ سيارةِ تعبئةِ المياه، وهو ما دفعني لأقوم بالمهمة بدلًا عنه”، قالتها دلال بصوتٍ متقطع، بينما تنتهي أخيرًا من تعبئة الجالونات وتعود بخطواتٍ بطيئةٍ متعبة إلى خيمتها!
كانت دلال تسكن في شقّةٍ في حي النصر غرب مدينة غزة، حتى شنّت إسرائيل حربًا على قطاع غزة يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023م، وأُجبرت على النزوحِ برفقةِ زوجها وأبنائِها الثلاثة محمد (15 عامًا)، عمر (13 عامًا)، وغني (9 سنوات)، ومعهم والد زوجها ووالدته، إلى مدينة دير البلح وسط قطاع غزة، بعدما طالب جيش الاحتلال سكّان شمال القطاع بالنزوح إلى جنوبه يوم 13 أكتوبر/تشرين الأول 2023م.
من داخل خيمتها الواقعة في أحد مخيمات النزوح شرقَ مدينة دير البلح، تقول: “نزحت يوم 13 أكتوبر/تشرين الأول 2023م، عن طريق صلاح الدين شرق مدينة غزة، 100 متر فقط فصلتنا عن الموت؛ وكُتبت لنا النجاةُ بعدَ استهداف الجيشِ الإسرائيلي لشاحنةٍ كانت تمرُّ أمامَنا، نحو 70 فردًا فقدوا أرواحهم وتبعثرت جثثهم أمامنا، رغم ادعاء الاحتلال أن هذا الطريق آمن”.
وتحظر اتفاقية جنيف الرابعة الخاصة بحماية المدنيين وقت الحرب، النقل القسري للمدنيين من أماكن سكنهم، كما تحظر في مادتها الثالثة استهداف المدنيين بالقتل أو التشويه.
دلال: ابني ضحى برجله عشان ينقذ راسه، لكن أصابها التعفّن وتهددت بالبتر
بحرقةٍ، تتحدث دلال عن أزمةِ شحّ المياه التي عانوها منذ وطأت أقدامهم أرض المخيم، فكلّما مرّت عربةَ تعبئةِ المياه يتكدّسُ حولها النازحون، وبالكاد يستطيعُ كلٌ منهم حمل ما يسدُّ احتياجه، لكن الأقسى هو ما حلَّ بطفلِها عمر.
تقول: “يوم 12 مارس/آذار 2024م، كاد طفلي عمر أن يفقد روحه وقدمه بسبب قطراتٍ من الماء، تكدّس النازحون حول العربة ليسقط هو أرضًا أسفل دواليب الشاحنة المخصصة لنقل المياه الصالحة للشرب، وهي الشاحنة الوحيدة التي تزوّد المخيم المليء بالنازحين بالمياه”.
سقط عمر أرضًا وبات رأسه أسفل عجلات الشاحنة، لكنه تحرّك سريعًا لتصبح قدمه اليمنى أسفل العجل، تعقب: “ابني ضحى برجله عشان ينقذ راسه، لكن أصابها التعفّن وتهددت بالبتر!”، بعد نقل عمر إلى مستشفى شهداء الأقصى، ونتيجة لشحّ الدواء والأغذية، أصاب الالتهاب قدمه، فتعفّن الجرح وباتت مهددة بالبتر، لكن كُتبت لها النجاة.
منذ تعرّض عمر للإصابة، وهو يمرّ بحالةٍ نفسيةٍ سيئة، وصحته في تدهورٍ مستمرٍ أفقدته وزنه وبات بجسدٍ هزيل، فأبسط احتياجاته غير متوفرة حتى اليوم، بعد إجرائه عدّة عمليات أقعدته لشهرين على كرسي متحرّك، وباستغراب تتساءل دلال كيف ستعمل بوصية الأطباء عدم تعرّض قدم عمر للماء أو الرمل، إن كان يعيش أصلًا في الخيام وسط الرمال، ونضرب الصخر كي نخرج الماء.
الجدة زكية: مش ممكن أنسى لحظة ما طلعوا عمر من تحت عجال الشحن وهو بصرخ أمانة ما تقطعوا رجلي
تتدخل والدة زوجها السيدة زكية أبو البري (70 عامًا) قائلة: “نعيشُ في أرضٍ ترابية، بين مرتفعات ومنخفضات، لم يكن من السهل وصول حفيدي عمر إلى المستشفى، فلا مواصلات متوفرة ولا قدرة على السير لمسافات، ونقله على كرسيه المتحرّك لمسافة بعيدة، كنا نضطر لنقله باستخدام الدواب”.
تتابع الجدة إن حفيدها نجا من الموت، لكن لا أحد يدري ما القادم، تعقّب: “مش ممكن أنسى لحظة ما طلعوا عمر من تحت عجال الشحن وهو بصرخ أمانة ما تقطعوا رجلي”.
بيدين مرتجفتين، تروي الجدّة كيف مكثوا شهرين في مستشفى شهداء الأقصى، بعدما صارعوا الموت من استهدافٍ طال المشفى أو قصف بجوارها، وصراع التهاب طال قدم عمر، ومخاوف تعرضها للبتر، مؤكدة: “بصعوبة التأم الجرح بسبب عدم توفر الغذاء الصحي له، لكن نفسيته تأثرت بشدة ويعاني الآن صعوبة في النطق”.
عودة إلى دلال التي تكمل: “في حربِ المياه أقضي يومي كاملًا بحثًا عن المياه، يبدأ نهاري وعائلتي بالوقوف في الطابور وسط مخيم اسمه أرض شراب، يحتضن 1300 أسرة، نتجرع جميعًا الذل من أجل قطرة مياه”.
تتابع: “أحيانًا أفقد القدرة على تأمين المياه، فأقرر مع زوجي وأطفالي التوجّه إلى مخيم آخر وننتظر دورنا ساعاتٍ لجلب المياه، حدث أن أخبرني مشرف أحد المخيمات أن من لا يحصل على تذكرةٍ لتعبئة الجالونات لا حق له بالتعبئة، وعليه الانتظار لساعات للتأكد أن جميع نازحي المخيم أنهوا التعبئة”.
تصل إمدادات المياه إلى المخيم لساعتين، ولكن ليس بشكلٍ يومي كما تؤكد دلال، وهذا لا يكفي العدد الهائل من النازحين، فأغلبهم لا يملكون المال لشراء مياهٍ صالحةٍ للشرب أو مياه الاستخدام، خاصة أن سعر الجالون ارتفع إلى خمسة شواكل، وليس لدى عائلة دلال القدرة على شراء خزان مياه، فخزانٌ بحجم (500) لترٍ تكلفته تجاوزت (200$).
نقطة واحدة فقط مخصصة لتوفير مياه الاستخدام المنزلي لمخيمٍ كبير، لكن وجودها مرتبطٌ بعمل ألواح الطاقةِ الشمسية، ومع قرب فصل الشتاء، وتناقص قدرة ألواح الطاقة على العمل، يعني عدم توفّر المياه لاحقًا.
دلال: كيف 50 لتر ميا تكفّي عيلة من 7 أفراد، بتكفّيش
تكمل: “المياه المتوفرة مرهونة بموعد معين، التأخير فيها يعني لا غسيل للملابس ولا الأواني، ويعني أن دخول دورات المياه أيضًا سيتأخّر ليوم إضافي”.
بعد إحضار المياه، تباشر دلال عملية غسيل الأواني والملابس بسرعة، كي تتمكن من تفريغ الجالونات والحصول على مياه مجددًا، فهي لا تملكُ سوى اثنينِ من الدلاءِ وجالونٍ واحد لا يتجاوزُ 50 لترًا، باستغراب تتساءل: “كيف 50 لتر ميا تكفّي عيلة من 7 أفراد، بتكفّيش”.
تعتاشُ عائلة دلال من خلال فرن طين يطهو عليه زوجها للناس مأكولات ومخبوزات؛ في ظل غياب غاز الطهي، لكن غلاء أسعار الخشب يؤثر على دخل العائلة الذي لا يتجاوز 30 شيكلًا يوميًا.
وكانت سلطات الاحتلال الإسرائيلي قطعت الكهرباء عن قطاع غزة منذ أول يوم في الحرب، ما جعل سكّان القطاع يعانون من أجل توفير المياه سواء الصالحة للشرب، أو الخاصة بالأعمال المنزلية، واستهداف البنية التحتية للبلديات وشبكات المياه، ما جعل البلديات غير قادرة على توفير ما يلزم من المياه.
تكمل دلال: “حين نزحنا لم نحمل سوى بعض قطع الملابس الصيفية، وأصبح أغلبها مهترئًا، بصعوبة نستطيع تأمين احتياجات أطفالنا”، تتنهد وتضيف: “بدي توقف الحرب، ويخلص هالكابوس، ما بدي أتحسر ع أولادي ومستقبلهم، لليوم ما راحوا ع المدارس”.
الجدّة زكية: بنعافر عشان نضل عايشين
مرة أخرى تتحدث الجدّة زكية، وهي مصرية الجنسية تقول: “نزحت ثلاث مرات برفقة زوجي وابني هيثم وعائلته، مكثنا في منزل ابنتي في النصيرات وسط قطاع غزة لشهرين ونصف، وبعد استهداف شقة قريبة منها وإصابتنا بجروح، نزحنا إلى دير البلح، داخل هذه الخيمة التي لا تقي الحر ولا البرد”.
“بنعافر عشان نضل عايشين” هكذا تصف السيدة حالها، فالوقوف في طوابير المياه هو حلقة صراع تنتهي ببعض الإصابات مثلما حدث مع حفيدها عمر، فتأمين مصدر مياه دائم للعائلات النازحة هو واجب على جهات الاختصاص كما ترى الجدّة.
وحسب الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، فإن معدّل استهلاك الفرد من المياه في قطاع غزة قبل الحرب كان (84.6) لترًا، انخفض إلى أقل من (15) لترًا يوميًا خلال الحرب، رغم أن الحد الأدنى الموصى به عالميًا هو (100) لتر للفرد يوميًا، حسب منظمة الصحة العالمية.
تسند الجدّة يدها إلى خدّها الذي تملؤه التجاعيد، وهي تواصل: “ممكن نستغني عن أي شي إلا الميا، فحتى المتوفّر منها غير آمن، لا خيارات أمامنا سواها، أحيانًا يميل لونها للأخضر، أصيب أحفادي أكثر من مرة بالقيء والإسهال، ناهيك عن الأمراض الجلدية والطفح الجلدي”.
لم تكن حرب المياه والغلاء والنزوح وحدها أوجاع السيدة زكية، بل صعوبة التواصل مع أهلها في مصر بسبب صعوبة الاتصالات في قطاع غزة، وهو ما جعلهم يعيشون في قلقٍ دائم عليها.
تختم: “عايشت خلال عمري الكثير من الحروب، هذه أصعبها، أحلم بفتح معبر رفح وأن أسافر لأهلي في مصر لأزورهم، أتمنى عناقًا طويلًا مع شقيقاتي وأشقائي”.