نزحوا (11) مرة

عائلة (سوسن) تفرّ من الموت إلى الموت

دير البلح- مركز التنمية والإعلام المجتمعي- هيا بشبش :

رحلةُ نزوحٍ شاقّة من منزل إلى شقّة إلى مدرسة، مشهدٌ تكرر حتى وصل إلى (11) مرةً، رقم بسيط لمن يقرأه، لكنه قاسٍ جدًا على من عايش النزوح، هي تجربة فقدت خلالها الصحفية سوسن حسّان (31 عامًا) والدها وعمّها، في قصفِ منزلِهم بمنطقة المغراقة جنوب مدينة غزة وأصيب إخوتها وأبناء عمّها.

توقّفت سوسن عن عملها كصحفية نتيجة النزوح المتكرر منذ بدء الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة يوم 7 أكتوبر 2023، وإجبار الاحتلال للفلسطينيين من سكّان شمال القطاع على النزوح إلى جنوبه، وعدم استقرار عائلتها في مكان نتيجة القصف والدمار، حتى استقر بهم الحال مطلع يناير 2024 في مدرسة في دير البلح، لكن القصف لاحقهم هناك!

تقول سوسن: “بدَأَت رحلةُ النزوح من ثالث أيام الحرب، منطقة المغراقة غير آمنة كونها زراعية، نزحتُ أنا وأمي وأخواتي الأربعة وزوجة أخي وأبنائه إلى شقّة في مدينة الزهراء، حاول رجال العائلة تأمين النساء والأطفال في أماكن ظنّوا أنها آمنة، لكن في كل مرّة كنا لا نستقر يومين أو ثلاثة، جميع المنازل والعمارات في مدينة الزهراء هددها الاحتلال بالقصف، حتى تم تهديد المدينة كلها”.

في المرة الثالثة للنزوح، طلب منهم شقيقها حمل حقيبة صغيرة، فقط لكل الأغراض، كان ذلك أصعب قرار يمكن اتخاذه، فما الذي تحمله وعن ماذا تستغني.

نزحت العائلة إلى منزل أحد الأقارب في مخيم النصيرات وسط قطاع غزة، ليُهدد المنزل أيضًا، فنزحوا إلى مدرسةٍ قريبة داخل المخيم، وخلال نزوحهم بتاريخ 30 ديسمبر 2023، بلغهم خبر قصف بيتهم في المغراقة واستشهاد عمها بعد ثلاثة أيام ثم والدها بعد شهرين متأثرًا بجراحه، إذ كان يحتاج إلى العلاج خارج قطاع غزة لكن لم يُعالج بسبب الحرب.

تكمل سوسن: “هبط خبر استشهاد أبي كالصاعقة عليّ، فهو الأقرب لي، تغيّر كل شيء الأسرة التي تجمّعت في بداية يناير في المدرسة ما لبث أن نقص عددها، فقدت السند والصديق والأب، هو الأقرب لقلبي وشخصيتي وتفكيري، فقدانه صعب جدًا عليّ، وفكرة الاستمرار في الحياة دون وجوده صعبة”.

التهجير القسري، التعرّض بالأذى للمدنيين، جميعها بنود حظرتها اتفاقية جنيف الرابعة الخاصة بحماية المدنيين وقت الحرب، خالفتها إسرائيل في حربها على قطاع غزة، فكان أغلب الضحايا الذين تجاوز عددهم 40 ألفًا من المدنيين، معظمهم نساءٌ وأطفال.

منذ يناير نزحت سوسن وعائلتها إلى مدرسة خديجة كملجأ أخير، وصلوا هناك دون حَمْل أمتعةٍ ولا أساسيات العيش، لا فراش ولا أواني للطهي، ولا أغطية أو وسادات، طيلة (7) شهور جمعت العائلة كل هذه الأشياء بشقِ الأنفس، سواء بالشراء أو مساعدات.

تضيف سوسن: “كان كل شيء ينقص الخيمة حتى تصلح نسبيًا للحياة، طيلة الفترة الماضية ونحن نجمع ما يلزم، حتى دورة المياه كنا نستعمل تلك الخاصة بالمدرسة، دون جود حمام خاص، وتخيلوا الوقوف يوميًا في طابور صباحي من أجل انتظار الدُور على باب الحمام، وكيف نستعمله في ظل هذا العدد الكبير من النازحين، حتى قمنا بإنشاء دورة مياه خاصة بنا قبل شهرٍ”.

أزمة الخصوصية طاحنة، لا شيء مستورٌ عن أعين الناس، تلتزم النساء طوال الوقت بثوب الصلاة، لا راحة ولا استقرار ولا حتى أمان، وفوق كل هذا غلاء المعيشة يجعل الحياة أصعب.

تكمل سوسن: “النازحون هنا كان لديهم تخوّف من قصف مدرسة خديجة، لوجود نقطة طبية داخلها، لم أكن أتوقّع أن نعود للنزوح مجددًا، صباح يوم السبت 27 يوليو 2024، كان صوت الطيران الإسرائيلي مرعبٌ جدًا، كنّا نجلس أنا وأمي أمام خيمتنا، لم ننهِ حديثنا حول صوت الطيران حتى فوجئنا بالصاروخ الأول”.

قصفت طائرات الاحتلال الإسرائيلي المدرسة بخمسةِ صواريخ، لم ينفجر آخرها، توضح سوسن: “كان الخامس الأقرب للخيام، تم إبلاغنا بضرورة الإخلاء لمن بقي على قيد الحياة، بحثت عن أبناء أخي، الكلّ كان يبحث عن صغاره وهم في حالة ذعر، لم نحمل أمتعتنا، فقط حقيبة الوثائق الرسمية، لم نعلم إلى أين نذهب”.

لجأ النازحون من المدرسة إلى مخيمات النزوح المجاورة، ثم عادوا وقد وجدوا مباني المدرسة أصبحت كومةً من الركام، تقول سوسن: “عاد الجميع لتفقّد أماكنهم، هدمت الخيمة، عدنا لإنشائها من جديد، وعدنا لنقطة الصفر لم ينجوا شيء داخل الخيمة إلا نحن، هذه المرة لم ننزح مرة أخرى، بل قررنا البقاء”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى