حين هربت (سارة) من الموت إلى الموت

دير البلح-هبة أبو عقلين:

“نزوحٌ وراء نزوح، تعبٌ وشقاء، هروب من الموت، ودموع حسرةٍ على زوجي الشهيد”، هكذا وصفت سارة القصاص (27 عامًا) حياتها في إحدى مخيمات مدينة دير البلح وسط قطاع غزة.

سارة هي أمٌ لأربعة أطفال، نزحت من بيتها في حي الصبرة وسط مدينة غزة، إلى جنوب قطاع غزة، إثر إجبار الاحتلال الإسرائيلي لمئات الآلاف من سكان شمال القطاع على النزوح إلى جنوبه منتصف أكتوبر 2023، في محاولة للنجاة بحياتهم، لكن فخّ الموت كان بانتظارهم!

تسردُ سارة تفاصيل ما تعرّضت له منذ بدء الاجتياح البري لمدينة غزة أواخر أكتوبر 2023، حتى استشهاد زوجها عزو القصاص، وتركِها تقارعُ الحرب وحدها.

تروي: “اشتدّ القصف في حي الصبرة، وبدأت المنطقة تخلو من السكان، أغلبهم نزحوا للنجاة بأسرهم، فقررتُ وعائلتي النزوح مثلهم.

عادت سارة إلى بيتها بعد أيامٍ لأخذ بعضِ الحاجيات، لكن صوتَ القصف المرعب جعلها تختبئ تحت سريرِها وتنهار بالبكاء، وهي تسأل نفسها ما الذي يجري، تمالكت أعصابها بصعوبة، وبقوة قلبٍ غير مسبوقة جهّزت أوراقها الضرورية وخرجت بسرعة.

الطريقُ للخروجِ من غزة هربًا من الموت مرعب، كانت سارة وعائلتها تحت مرمى القنّاصة والقذائف تسقط فوق رؤوسهم، رغم ذلك واصلوا المسير، فالانحناء يمكن أن يكلّفهم حياتهم.

تقول سارة: “رأيت طفلًا تم قنصه وارتمى على الأرض، دمهُ يجري تحت أقدامنا ولم يستطع أحد إنقاذه، فالقتل بدمٍ بارد مصير من يحاول، كان الأطفال يصرخون من هول المشهد”.

نزحت سارة وعائلتها إلى مخيم المغازي وسط قطاع غزة، وهناك اشتدّ القصف فالجنوب أيضًا غير آمن، نزحوا مجددًا صوب جامعة الأقصى غرب مدينة خانيونس جنوب قطاع غزة، الظروف كانت قاسية، والحصول على المياه شبه مستحيل، بدأ الناس بقطع الأشجار لطهي الطعام إن توفّر، وفي ظل هذه الأوضاع المعقّدة، افتتح زوج سارة بسطةً لبيع المعلّبات أمام الجامعة لينفق على عائلته.

تسند رأسها إلى عمود الخيمة الخشبي، وتكمل: “كانت الشمس تحرق وجه عزو يوميًا وهو يتحمّل ليحصل على بضع شواقل يستعين بها لتلبية بعض حاجيات العائلة”.

أواخر يناير 2024م، هاجمت دبابات الاحتلال جامعة الأقصى ليلًا بشكلٍ مباغت، وبدأ الناس بالهرب تحت القصف والشظايا تتطاير فوق رؤوسهم، واللهيب يشتعل بين خطوةٍ وخطوة، الكل يجري ويصرخ، تكدّس النازحون أمام البوابة وسط صراخ الأطفال، منظرٌ مرعب، الكل يجري هربًا من الموت وسط البرد والأمطار الشديدة ولا أحد يدري أين يذهب.

تكمل: “بعدما هربنا وجدنا مكان في مواصي خانيونس جلسنا في العراء على رمالٍ البحر، لا خيمةٌ ولا ملابس، كل شيء تركناه في الجامعة، الطقس كان باردًا، والأمطار هطلت علينا، استطاع زوجي صنع خيمةٍ لنا ولأهله تقينا الأمطار”.

ظهرت علامات الصدمة على وجه سارة وهي تستعيد ذكريات ثاني أيام شهر رمضان، حين ذهب زوجها وصديقه للعمل ليوفرا قوتِ أطفالهما، فزوجها يتألم لبكاء طفلته ميار (10 أعوام) كل ليلة وهي تطلب الحلوى، خرج في السادسة صباحًا، وألقى عليهم نظرةً غريبةً وغادر!

تقول: “كنت أنتظر عودته، لكنه غاب لثلاثةِ أيامٍ وأنا أموت قلقًا عليه، حتى بلغني خبر استشهاده الذي نزل كصاعقة هزّت كياني”.

صرخت سارة وصرخت وصرخت، لكن الصراخَ لن يعيد شريك حياتها الذي عاشت معه أكثر من 10 سنوات حبًا وتفاهمًا، وانتهت حين تعرض لقصفٍ أثناء عمله في البيع.

تتنهد بعمق وتكمل: “فقدتُ صوابي، شعرت أنني سوف أجنّ، تَشارَكنا الحياة والحرب معًا، لكنه ذهب وتركني وحيدة ومعي صغاري”، يتساءل أطفال سارة يوميًا عن أبيهم الذي ذهب من أجل العمل، فتلقّى صاروخًا أنهى حياته، تحضنهم بقوة وتبكي معهم.

ويتنافى ما حدث مع والدهم مع نص المادة (33) من اتفاقية جنيف الرابعة التي تحظر استهداف المدنيين، كما تحظر الاتفاقية ذاتها التهجير القسري للمدنيين.

تواصل: “هذه المرة لم أهرب من الموت، بل من الحياة، فكلُ ركن كان عزو أساسيًا فيه، لا أستطيع النهوض من الصدمة، هربت لمكان آخر تاركةً كل شيء لأعالج نفسي من الاكتئاب الذي أصابني”.

 

بعدما تركت المواصي، تعيش سارة حاليًا مع أهلها في خيمة في دير البلح مع أطفالها الأربعة (ميرا 11 عامًا، يزن 10 أعوام، ميار 6 أعوام، ونصر عامان ونصف)، في خيمة شديدة الحرارة دون شريكٍ يرافقها في هذه الظروف القاسية.

بصوتٍ خافتٍ وعينان دامعتان تختم: “أمنيتي ألا يتكرر النزوح، وتنتهي الحرب ويبقى أطفالي بخير ويحققوا أمنيات أبيهم”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى