مأساة النزوح على كرسي متحرّك كما يرويها (عايش)
دير البلح – هيا بشبش :
“لم أشعر بالعجزِ قبل الحرب، كانت حياتي مليئةً بالراحة، الكل يتعاون معي لتأمين احتياجاتي اليومية، مأكلي كان صحيًا تمامًا، والآن كل شيء تغيّر”.
بهذه الكلمات الثقيلةِ على من لا يمتلكُ حرّية أطرافِه، روى عايش عبد ربه “52 عامًا” تجربة نزوحِه من مدينة جباليا شمالَ قطاعِ غزة، إلى مدينةِ دَيرِ البلح وسط القطاع، منذ أول أيام الحرب في 7 أكتوبر 2023 حتى الآن.
عايش هو شخصٌ من ذوي الإعاقة، أصيبَ بضمورِ العضلات، منذ كان في عُمر (12 عامًا)، حين بدأت تظهرُ عليه أعراضُ الضمور، وتدهورَ حاله بشكل تدريجي ليصبح ملازمًا لكرسيه المتحرك لا يقوى مطلقًا على الحركة، حتى يداه عاجزتان عن تلبية شعوره بالعطش.
اصطحبنا عايش مستعينًا بصديقٍ لتحريك كرسيه إلى الخيمة التي يقطنُها حاليًا مع إخوته في باحة كليةِ فلسطين التقنية بمدينة دير البلح، والتي لجأ لها برفقة آلاف النازحين بعد تهجيرهم قسريًا، من قِبل الاحتلال الإسرائيلي من مكان سكنهم في شمال القطاع إلى خيمة لا تتسع لأربعة أشخاص، يتقاسمها مع عشرين آخرين، فيها منامَهم ومأكلَهم وكل ما يحتاجه الفرد.
يكمل بصوت متقطع: “قبل الحرب كانت أيامي مليئةً بالراحة، الكل يعاونني في قضاء متطلباتي اليومية، طعامي صحيٌ وأشرب المياه المعدنية التي أصبحت غير متوفرة الآن، وإن توفرت فهي بمبلغٍ كبير، الجميع كان حولي من أصدقاء وأقارب، شقّتي التي انتبهت من بنائها قبل الحرب كانت هادئة وتعجّ سعادة وراحة، لم أكن أشعر بالعجز”.
اعتدل وطلب من شقيقته أن تُشرِبه الماء، وأضاف: “منطقتي السكنية تقع شرق شارع صلاح الدين، اسمها عزبة عبد ربه، تُعدُ من المناطقِ الخطيرةِ في الحروب، فهي دائمًا تتعرضُ للقصف الجوي والمدفعي والاجتياح البري، منذ بداية الحرب، – تحديدًا- يوم 11 أكتوبر 2023، تعرّضت البنايةُ التي أسكنها إلى القصف المدفعيّ، استشهدت ابنةُ عمي البالغة 20 عامًا، وأصيب عمي”.
أصيب الجميعُ بالهلع، الفاصل بينهم وبين الموت جدارٌ فقط كما يروي عايش، نزحوا إلى بيت أحد أقاربِهم علّه يكون أكثر أمانًا، فقصف الاحتلال بيتُ جيرانَهم بالطيران الحربي، واستشهد 13 فردًا من الجيران، انتقلوا مرةً أخرى إلى وسط مدينة جباليا، وبعدها لمكان آخر اضطروا للنزوح منه بعد قصف مسجدٍ مجاور له، واستشهاد 11 من المصلين.
يعدّل عايش جلسته مجددًا وهو يكمل: “في كلِ مرةٍ كان النزوح من مكانٍ لآخر يتطلبُ الكثير من جهدِ الآخرين لمعاونتي للانتقال معهم، ظنًا منّا أن هناك مكانًا آمنًا، كنت عاجزًا عن اللجوء للكرسي المتحرك، فالركام وحطام المنازل في كل الأرجاء، لذلك كان يتعاون الجميع في حملي من مكان لآخر، حتى طلب منا جيش الاحتلال إخلاء مدينة جباليا”.
ونصّت اتفاقية جنيف الرابعة الخاصة بحماية المدنيين وقت الحرب، في المادة (49) على حظر النقل الجبري الجماعي أو الفردي للأشخاص المحميين أو نفيهم من الأراضي المحتلة إلى أراضي دولة الاحتلال أو أراضي أي دولة أخرى، محتلة أو غير محتلة، أيًا كان دواعيه، ومنع تهجير السكان قسريًا، ويسمح لها تهجيرهم لدواعٍ عسكرية بشرط رجوعهم حين انتهائها.
النزوحُ الخامس الذي عايشه عايش كان من مدينة جباليا إلى مدينة دير البلح وسط قطاع غزة، وخلالَهُ كان هو على كرسيهِ المتحرّك وشقيقِه يدفعه سيرًا على الأقدام من شمال القطاع إلى جنوبه، متخطّين الحاجز الذي أقامه الجيش الإسرائيلي جنوب شرق مدينة غزة.
رحلةٌ شاقّة كما وصفها عايش الذي وصل بدايةً إلى مستشفى شهداء الأقصى شرق مدينة دير البلح، أصابتهُ بالإعياء الشديد ليؤكد: “من الحاجز إلى المستشفى استنشقت كمية كبيرة من الغازات والكبريت المنبعثة من أماكن القصف، والطريق الطويل الذي قطعناه كان له أثرٌ كبيرٌ على الجهاز التنفسي لديّ، وبعد أسبوعين خرجت لأستقر في كلية فلسطين التقنية مع بقية إخوتي”.
ويروي عايش إنه يعاني عدم مواءمةِ المكان لحالته كشخصٍ من ذوي الإعاقة، فالمرحاض غير موائم وغير مريح كونه مشترك مع الجميع، والمياه غير متوفرة مطلقًا والطعام غير صحي، والضجيج الناتج عن الازدحام جميعها أسباب لعدم الراحة.
ويختم عايش: “ما زلت أعيشُ وأتحمل على أمل توقّف الحرب، والعودة لبيتي الذي دمّره الاحتلال”.