ثلاثةُ أبناءٍ وبيت… حرائق في قلبِ أم سليم

النصيرات – هبة أبو عقلين :

تهطل الدموعُ بغزارةٍ من عيني الفلسطينية أمل أبو شنّار وهي تجلسُ على باب خيمتها في منطقة السوارحة غرب مدينة النصيرات وسط قطاع غزة، فلا شيء يعزّي قلبُ أمٍّ مكلومة باستشهاد ثلاثٍ من أبنائها تِباعًا، وضياعَ البيت أيضًا.

“كان لديّ عائلةٌ، وبيتٌ ملئ بالفرح، وأبناءٌ يملأون المكان صخبًا وضحِكًا، فقدت ثلاثة منهم، لا حديث عن الفرح بعد اليوم، لن يزور الفرح قلبي ما حييت”، بهذه الكلمات تحدثت أمل أبو شنّار؛ بينما تنظر بعيونٍ حائرة إلى المئات من خيام النازحين التي تتكدس في محيط خيمتها، وإلى المارّة الذين يظهر عليهم علامات التعب.

تسند السيدة المكنّاة أم سليم رأسها إلى إطارٍ خشبي يسند الخيمة، وهي تسرد كيف كانت تعيشُ مع عائلتها في بيتها الدافئ في حي تل الهوا غرب مدينة غزة، وذكرياته اللامعة مع أبنائها السبعة وزوجة ابنها وحفيدتها قبل حرب 7 أكتوبر، بينما تعيش العائلة الآن داخل خيمة من القماش المهترئ لا تتجاوز أربعة أمتار، دون ثلاثة من أبنائها، وزوجها المتواجد في مدينة غزة، وكأن بساط الحياة سُحب من تحت قدميها ليطالها الشوك وينزف قلبها وجعًا.

تقول: “هذا هو النزوحُ الخامس لي بعد نزوحي الأول بمدينة غزة إلى منزل أحد أقاربنا، قبلها كنت في بيتي حين تم استهداف منزلٍ الجيران، دخلت نارُ الصاروخ كاللهيب لبيتي، لم أعِ ما حدث، الغبار غطى كل المنطقة، أستمع لمن هم حولي يتحدثون بأن أبنائي جمال ونصر الله أصيبا”.

جمال (14 عامًا)، ابنها المدلل وآخر العنقود الذي كانت تسمّيه فاكهة البيت، وصلها نبأ استشهاده بعد ( 24) ساعة من الإصابة، وقبل مضيّ عشرة أيام، بلغها خبر استشهاد ابنها نصر الله (24 عامًا) في المستشفى، رغم أن إصابته لم تكن خطيرة كما أخبرها الأطباء، تعقّب :”لكن هناك شيء يحترق داخل جهازه التنفسي نتيجة للسلاح الذي يستخدمه الاحتلال الإسرائيلي”.

لم يقف الألم عن هذا الحدّ؛ فقد بلغها بعد أسبوعٍ من استشهاد نصر الله، نبأ استشهاد ابنها البكر سليم (28 عامًا)، نتيجة قصف مستشفى القدس في مدينة غزة، في تناقض مع اتفاقية جنيف الرابعة التي تنص على حماية المدنيين وقت الحرب، وتحظر استهداف المستشفيات والمرافق الطبية.

ترك سليم زوجته الحامل في شهرها الثامن، وطفلته البالغة (9) شهور دون وداع، نظرات الطفلة تقول أين أبي، وملامح زوجته تئن ألمًا لفراق زوجها، حيث بقيت إلى جانب أهلها كي تضمن ظروف ولادة أفضل من الخيمة لطفلها الجديد الذي أنجبته في مدينة رفح أثناء الحرب.

ويتناقض ما تعرّضت له عائلة أم سليم مع اتفاقية جنيف الرابعة بشأن حماية المدنيين وقت الحرب، إذ تحظر المادة (32) منها جميع التدابير التي من شأنها أن تسبب معاناة بدنية أو إبادة للأشخاص المحميين بموجب الاتفاقية.

تكمل: “اختار زوجي النجاة بمن تبقّى من أفراد العائلة، فطلب مني النزوح إلى الجنوب، أخذت معي أبنائي الأربعة وزوجة ابني الشهيد حين كانت حاملًا بشهرها الثامن وبين يديها طفلتها، حيث لا يوجد مرافق صحية في غزة، جميعها تحت التهديد، ونزحنا إلى الجنوب، وبقي زوجي في غزة، ما شكّل عبئًا نفسيًا إضافيًا عليّ”.

باستنكار تتساءل أم سليم عمّا فعله الاحتلالُ بالمستشفيات والمرافق الصحية من استهداف بالقصف، كونه يتناقض مع كافة القوانين الدولية التي تحظر استهداف هذه المنشآت، فالكثير من النساءِ اضطررن للسير مسافات طويلة أثناء المخاض وخلفهن أطفالهن، منهن من نجت وأخريات تم إعدامهن مع أطفالهن.

انهمرت دموع أم سليم وهي تستذكر تفاصيل حياتها مع أبنائها السبعة قبل الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، فهذه الحربُ مختلفةً عما شهده قطاع غزة من اعتداءات في السنوات السابقة، هي إبادةٌ لكل شيء للبشر والحجر وإمكانات الحياة.

تواصل: “لا أدري ما يفعل زوجي في غزة، أنا هنا أعيل أبنائي الأربعة وحدي، في خيمة لا تقي حر صيف ولا برد شتاء، وما زاد المعاناة حالة النزوح المتكرر من مكان لآخر، دون وجود مكان آمن”.

تشعر أم سليم في كل لحظة أن الصواريخ تلاحق أي شيء يمشي في الشارع، فهي عاشت هذه التجربة المرعبة، وتخاف الخروج لأي مكان خاصة ليلًا، مع اشتداد صوت القصف وأزيز الطائرات.

تختم: “كلما اشتد القصف أجمع أبنائي حولي كي أهدأ قليلًا، وما يخفف عني أني أحاول إقناع نفسي إنها أزمة وسوف تمر”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى