شهيدٌ يتبعه شهيد طعناتٌ متتاليةٍ في خاصرةِ (أم رمزي)

النصيرات- فدوى عبد الله:

بعينين دامعتين، تودّع هستيريا الضحِك المتواصلة، تلك التي تصيبها بعد موجةِ غضبٍ على كلِ من حولِها، نتيجة خيبة الأمل التي تلاحقها في كل مرة تعودُ لوعيِها، حين تكتشف أن عائلتها الكبيرة لا تزاحمَها المكان، بل هي مجرد ذكرياتٍ منقضية في ثنايا خطوطِ الزمن على وجهها وشعرِها الذي شاب فوق شيبِه.

حالة نفسية سيئة تعيشُها المسنة أم رمزي أبو دباغ (64) عامًا وهي من مدينة النصيرات وسط قطاع غزة، نتيجة الفَقد المتواصل خلال الحروب المستمرة على قطاع غزة، منذ حرب عام 2008 حتى اليوم، ودّعت خلالها أكثر من 15 فردًا من عائلتها شهداء، وسط نزوح وتشريد لا ينتهيان!

تقول الحاجة أم رمزي:” في كلِ مكان دفنتُ شهداء، بمدينة غزة، النصيرات، السوارحة، وخانيونس، موزعين على جميع مقابر قطاع غزة، أولادي وبناتي وزوجات أبنائي وأحفادي، دُفن كل شخص حيث استشهد، ومعظمهم لم نستطع توديعهم”.

ثلاثُ أبناءٍ ودّعتهم أم رمزي تِباعًا، استشهد ابنها حسين عام 2013، متأثّرًا بشظية أصابت رأسه خلال العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة عام 2008، تبِعهُ شقيقه غسان خلال عدوان عام 2014، تاركًا زوجته وأطفاله الثلاثة، ثم ثالثهم ياسر، للسيدة التي أنجبت خلال حياتها (20) ابنًا معظمهم توائم، توفي 5 منهم نتيجة المرض، إضافة للشهداء.

خلال حرب الإبادة على قطاع غزة، التي شنّتها قوات الاحتلال الإسرائيلي يوم 7 أكتوبر 2023، تجرّعت أم رمزي مجددًا دوامة الفَقد، وكأن ثِقل سنيّ العُمر على كتفيها لا تكفي لتتعثر بفِراق زوجة ابنها الشهيد غسّان وابنه في مدينة غزة، وزوجة ابنها الأخرى وحفيدها (آدم) الذي تصفه بأنه مُدللها!

على أرضِ مستشفى الشفاء بمدينة غزة، أربعةُ من أحفاد أم رمزي ناجون من الموت، عاشوا ليلةً قاسيةً في المكان الذي نزحوا إليه، بعد أن استهدفت غارةً إسرائيلية منزلًا ملاصقًا لمنزل أخوالهم، في مخالفة لبنود اتفاقية جنيف الرابعة الخاصة بحماية المدنيين وقت الحرب، وخاصة المادة (3) التي تحظر الاعتداء على السلامة البدنية والقتل.

تتابع: “هاتفنا الصليب الأحمر لإخبارنا أن هناك شهداء بحاجة للدفن، وعلينا استلامهم، وبعد تنسيق الصليب مع الاحتلال، تمكّن أبنائي من الذهاب إلى مدينة غزة، دفنوا الشهداء وأحضروا أحفادي الأربعة ليعيشوا تحت رعايتي بمخيم النصيرات”.

بعد إعلان جيش الاحتلال النصيرات منطقةً عسكريةً، خرجت العائلة لمدينة رفح، وهناك فقدوا ابنهم الذي يعاني من اضطرابات نفسية، حيث ساءت حالته خلال الحرب بسبب خسارة زوجته وابنه، بحثوا عنه كثيرًا ولم يجدوه ليبقى في عداد المفقودين، وخلال انشغال العائلة بالبحث عن ابنها المفقود، وصلهم نبأ قصف الشقة السكنية التي كانوا يعيشون فيها.

بعينين غرقتا بالدموع تكمل: “صدماتٌ متواصلة، من موت إلى فَقدٍ إلى ضياع المأوى، ضاقت الحياة علينا في مخيمات رفح، غرباء دون مال، اضطررت للتسوّل لتوفير الطعام لأحفادي، كما تقطع الفتيات مسافة طويلة لدخول الحمام، قررنا العودة إلى مخيم النصيرات، وبسبب الازدحام في المدارس لم يستقبلونا، فصنعت خيمة من خلال تجميع الأغطية لتسترنا داخلها”.

خلال حصار مستشفى ناصر في خانيونس، وصل الجدّةَ خبر استشهاد ابنتها الصغرى ياسمين وطفلتها، لم يستطع أحد من عائلتها توديعها إلا من خلال صورة أرسلها زوجها، بعد أسبوعٍ من دفنها، حين توفر اتصال بالإنترنت.

تبِع ذلك استشهاد ابنتها غالية وأبنائها، التي اتصلت بوالدتها تخبرها أن الوضع شمال النصيرات خطير، لكن عندما حاولت النزوح استهدفتها طائرة مسيّرة على باب منزلها، في وقت كان أمها تنتظر قدومها إليها، صرخت أم رمزي صرخة هزّت أركان المكان، وكأنها تنادي جميع من دفنتهم تحت التراب.

تكمل: “ظلّ جثمان غالية وأبناؤها على باب منزلهم من المغرب حتى صباح اليوم التالي، لم يتمكّن الإسعاف من الوصول لهم، وحين ذهبت للمستشفى لرؤيتهم وجدتهم في كيس أسودٍ، محروقة ومقطّعة، كأنها وأبناؤها دجاج مسلوخ”.

ثقُل الحِمل على الجدّة التي تحتاج رعاية، لتمضي أيام صعبة بلا معين، ودون قدرةٍ على توفير الطعام لأحفادها الذين يصطفون على طابور المياه، ويحصلون على وجبتهم من التكية كلما توفّر، كما تراكمت عليها الديون لبائع الحطب وبسطات المواد الغذائية.

تفرغ الجدّة غضبها على أحفادها، فتارةً تطردهم من الخيمة، وسرعان ما تركض باحثةً عنهم، فهي لا تستطيع التحكّم بنوبات غضبها نتيجة الصدمات التي تلقّتها من جهة، ومن جهة أخرى؛ المسؤولية الثقيلة عليها وخوفها على أحفادها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى