الصحفي الجريح سعيد جرس…تغطيةٌ تقطر دمًا

الصحفي الجريح سعيد جرس…تغطيةٌ تقطر دمًا

 

دير البلح – خديجة مطر :

“وجدتُ نفسي داخلَ قسم الطوارئ، تنزفُ الدماءَ من قدميَّ بغزارةٍ والزملاء الصحافيون يصرخون حولي مناشدين الأطباء وقف النزيف، كنتُ في حالةِ شبه فقدان للوعي، وظننتُ أن روحي غادرتني”.

بهذه الكلمات تحدّث الصحفي الفلسطيني الجريح سعيد جرس (30 عامًا)، شارحًا حاله بعدما تعرّض لإصابة أثناء قصفٍ إسرائيلي طالَ خيمةً للصحفيين داخل مستشفى شهداء الأقصى شرق مدينة دير البلح جنوب قطاع غزة.

ويعمل الصحفي جرس وهو من سكان حي الرمال غرب مدينة غزة، مصور لوكالةِ بلوبرغ الأمريكية ووكالة APA  ووكالة middle east، ليصبح صميم عملهِ نقلُ صورةِ الأحداث في فلسطين، والانتهاكات التي يرتكبها الاحتلال الإسرائيلي بحق الشعب الفلسطيني.

بعيونٍ أرهقها قلةُ النوم، يتحدثُ سعيد عن الإصابة التي تعرض لها يوم 23 مارس 2024، حين كُتبت له النجاة من موتٍ حتمي، بعد استهداف طائرة استطلاع إسرائيلية خيمةً مجاورةً لخيمة الصحفيين داخل مستشفى شهداء الأقصى بصاروخين، ليصاب هو ومعه خمسة من زملائه الصحفيين ويفقد اثنان من المدنيين أرواحهم.

ويستمر الاحتلال الإسرائيلي بانتهاك كافة القوانين والمواثيق الدولية – تحديدًا- المادة (19) من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، التي كفلت حرية العمل الإعلامي، بما فيها وقت الحروب والأزمات، كما تحظر اتفاقية جنيف الرابعة بشأن حماية المدنيين وقت الحرب، استهداف المدنيين وممتلكاهم. 

يشرح جرس الذي ما زال يتماثل للشفاء من تلك الإصابة: “لا أستطيع نسيان تفاصيل الحادثة، أتذكّر المشهد بكل قسوته، كنت داخل خيمتي أمارس عملي كالمعتاد، ثم توقّف كل شيء فجأة وكأنني دخلت غيبوبة مفاجئة!”

لدقيقةٍ، عم الظلام كل شيء في الخيمة، حاول سعيد التحرّك من مكانه والهروب خارج الخيمة فلم يستطع، النيران مشتعلة في كل المكان ورائحة البارود القاتلة تخنق أنفاسه، ثم سقطت تحت قدميه جثتان لا يعلم لمن تعودان.

يكمل بعد أن أخذ نفسًا عميقًا: “أمسكتُ بخشبةٍ معلّقةٍ في الخيمة فسقط كلُ شيءٍ فوق رأسي، حاولت النجاة بإلقاء نفسي بين خيام النازحين الذين هربوا من هول المشهد، رأيت الدماء تنزف من قدميَّ فاعتقدت أنهما بُترا، بعدها وجدت نفسي داخل قسم الطوارئ والزملاء يصرخون لإنقاذي”.

كُتبت النجاة لسعيد وقدماه ولكنه ما زال يتلقّى العلاج ويتماثل للشفاء وقد عاد للعمل، لكن هذه التجربة بالنسبة له، تبقى مختلفة عن كل التجارب التي عايشها في حياته.

يقول جرس: “كوني صحفيٌ فلسطينيٌ وخاصةً في قطاع غزة الذي يتلقّى النكبات واحدةً تلو أخرى، فأنا كغيري من الصحفيين علينا أن نكتب وصايانا ونودّع عائلاتنا كل صباح، كونك صحفيًا في غزة؛ يعني أنك شهيد مع وقف التنفيذ”.

لكن الحرب جاءت لتمحو مستقبل سعيد الشخصي، لتتوالى بعدها الآثار على جميع النواحي النفسية والفكرية والحياتية، فقد دمّر الاحتلال منزل الزوجية الذي لم يسكنه بعد، بعدما قضى 10 سنوات من عمره في تأسيسه، وأخذت الحرب معها أصدقاءً يشعر بالحنين لهم في كل ساعة، وحالت الحرب دون رؤية وجه أمّه الشاحب خوفًا عليه، وأبيه الذي يدعو له أن يعود سالمًا.

وعن أكثر العقّبات التي يواجهها يقول إننا في عجلةٍ لا تتوقف عن الدوران بين ممارسة العمل الصحفي وتوفير أبسط مقومات الحياة، خاصة في ظل انقطاع التيار الكهربائي وكل سبل الحياة.

يكمل: “يفرضُ علينا الاحتلال الكثير من القيود في عملنا، نتحرك بصعوبة بالغة تشكّل عائقًا في نقل وتغطية الأحداث، ما يصعّب علينا نقل الصورة والحدث أولًا بأول للعالم، ناهيك عن أزمة الإنترنت وانقطاعه المتكرر، فأغلب الأحيان يقوم الاحتلال بعزلنا عن العالم لأيامٍ وأسابيع”.

ورغم كل هذه المعوّقات؛ لكن جرس يؤكد أنه وبقيّة زميلاته وزملائه من الصحافيين مستمرون في تغطيةِ الأحداث، فكل منهم يسير كمن يحمل كفنه على كتفه، من أجل كشف الحقيقة، مع أنه في أي لحظة يمكن أن يكون هو الحدث نفسه، في هذه الحرب التي تعمد الاحتلال فيها استهداف الصحافيين وعائلاتهم.

بين الصورة والقلم والحقيقة، يواجه الصحفي الفلسطيني مخاطرًا جمة وقد تكون روحه المستهدفة، لتتضاعف الخطورة بشكل أكبر مع بدء أحداث السابع من أكتوبر 2023، إذ فقدَ 143 صحفيًا وصحافية أرواحهم؛ رغم ارتداء الميدانيين منهم شارات تميزهم بعملهم الصحفي.

بحسرةٍ تلتها نظراتُ حيرة، يروي جرس أن فرحةَ عمرهِ منقوصة، فهو الذي انتظر عامًا كاملًا لتجهيز شقته والتزامات مراسم الزفاف، قرر بعد الإصابة بأيام إتمام زفافه دون وجود أحد، فحين رأى قدماه المصابتين ومستقبله المجهول، قرر أن يصنع لنفسه عائلة مع من اختارها قلبه شريكة لحياته.

ويختم جرس حديثه بالمطالبة بتوفير حماية دولية ميدانية للصحفيين الفلسطينيين، وبيئةُ عمل آمنة لهم، والتسريع باتخاذ إجراءات فورية وتحقيق دولي في مجمل الانتهاكات التي ارتكبها الاحتلال تجاه الصحفيين وعائلاتهم وتقديم قتلتهم والمحرضين عليهم للمحاكم الدولية.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى