ابنٌ مفقودٌ ونزوح … حريقان في قلب إيمان
رفح_سالي الغوطي:
لم تترك السيدة إيمان الشنتف مكانًا في مدينة رفح إلا وبحثت فيه عن ابنها يحيى، المفقود منذ أربعة أشهر؛ دون أن تعثر على أي أثرٍ له، لتُضاف هذه المأساة إلى معاناة النزوح والعيش في خيمة، الذي تعانيه منذ بدء الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة!
“بحثتُ عن يحيى في كل مكان، في الشوارع والأسواق وحتى في ثلاجات الموتى، علّي أعثر على أي أثرٍ له، دون جدوى، قلبي يكتوي لا أستطيع النوم، خاصة وأنه مريض وبحاجة للعلاج”، تقول إيمان.
في تفاصيل الحكاية، فالسيدة الأربعينية كانت تعيش في حي الشيخ رضوان غرب مدينة غزة برفقة أبنائها الستة الذين تعيلهم وحدها، منذ سفر زوجها قبل عامين في رحلة علاج مع شقيقه، أُجبِرت على النزوح حين شنّ الاحتلال الإسرائيلي هجومه البري، بعد نحو شهرين من بداية الحربالتي اندلعت يوم 7 أكتوبر 2023.
تدور بعينيها بحِيرةٍ في أرجاء خيمتها القماشية، وتتنهد بينما تروي تجربة النزوح: “اشتدّ القصف فخرجنا عبر حواجز وضعها الجيش لفصل جنوب القطاع عن الشمال، عايشتُ تجربةً مهينةً مع الاستهزاء والقذف والسب من قِبل الجنود، ولكن مررت كي أصل بأبنائي بسلام”.
وصلت إيمان إلى مدينة خانيونس جنوب قطاع غزة، والتي صنّفها الاحتلال بالمنطقةِ الآمنة، وحطّت الرحال لدى أحد أقاربهم حيث مكثت في شقة مع نازحين آخرين، لتعيش تجربة قاسية بسبب ضيق المكان والشجار العائلي يوميًا، ماسبّب ضغطًا لابنها يحيى (18 عامًا) الذي يعاني من مرض الصرع، وفقدانه لعلاجه منذ بداية الحرب.
تكمل: “خرج يحيى حزينًا في 25 ديسمبر بعد شجار كبير بينه وبين أقاربه، ولم يعد، لم يكن يحمل في جيبه سوى بطاقة هويته الشخصية”.
كان يحيى الأقرب لقلبِ أمه، رفيقها عند الخروج من البيت، تحرص على أن تبقيه أمام عينيها كي لا يصيبه مكروه، تارة تخبّئ خوفها عليه، وأخرى تعتمد عليه في كل شيء.
بعد رحلة نزوح عدة مرّات من مكان لآخر، استقر الحال بإيمان وأبنائها في خيمة قماشية على قارعة إحدى طرقات مخيم الشابورة وسط مدينة رفح، تقول: “بالكاد أستطيع تحمّل أعباء الحياة في الأيام العادية، فما بالكم وأنا الآن دون زوجي وأعاني فقدان ابني، لا أحد يخفف عني”.
تشير بإصبعها إلى قماش الخيمة شديدة الحرارة وهي تقول: “بالكاد تتسع لشخصين، في النهار تكون غرفة لتحضير الطعام، وتتحوّل للمبيت ليلًا”.
لم يتوقّف مسلسل الألم والفَقد لدى أم يحيى عند هذا الحد؛ فقد بلغها خبرُ استشهاد شقيقتها مع زوجها وأبنائهم جميعًا في مدينة غزة، بعد قصف الاحتلال منزلهم نهاية ديسمبر الماضي.
غرقت عيناها بالدموع وهي تكمل: “لم أتوقّع يومًا أن أبحث عن ابني في ثلاجات الموتى، وأتفحّص وجوه الأموات الذي أصبحت أراهم حتى في منامي، بعضهم حفظت ملامحهم، وآخرون طمستها آلة الحرب الإسرائيلية”.
تعيش إيمان حالةٌ من الترقّب والقلق، أجرت عشرات الاتصالات مع الصليب الأحمر الدولي والشرطة والمستشفيات، علّ أحدهم يعثر على أي معلومة تخفف حريق قلبها لكن دون جدوى.
تعيش إيمان مأساة النزوح وعدم قدرتها على تلبية احتياجات أبنائها، إلى جانب حالة الفقدان التي أصبحت ظاهرة، حيث تشير تقديرات وزارة الصحة الفلسطينية إلى أن عدد الأشخاص المفقودين تجاوز 8000 منذ بدء الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة.
وعن حياتها في الخيمة تضرب كفًا بكف وهي تقول: “حياتنا تشبه أي شيء إلا الحياة، فهي ملغومة بالويلات، فلا معيل لي سوى المساعدات التي تصل من المبادرات وبعض المؤسسات، ونعتمد بشكل أساسي على التكيات في توفير الطعام”.
تختم: “أصيبت حياتي بالشلل، لا أقوى على إنهاء الأعمال اليومية، من ترتيب وغسيل وتنظيف وغيرها، ولا أستطيع الاهتمام بأبنائي الخمسة من شدة تفكيري بيحيى، دائمًا أجد نفسي خارج الخيمة، أسير وحدي لساعات دون هدف، أحاول الهروب من كل شيء حولي، لكن الألم يرافقني”.
تنهي إيمان حديثها، ثم تغادر للوقوف خارج الخيمة، تنظر بحزن إلى غروب الشمس تتذكر بيتها الذي هدمته آلة الحرب الإسرائيلية في غزة، بينما يعتصر الألم قلبها قلقًا على يحيى.