النزوح … مجزرةٌ يوميةٌ في قلبِ عساف

رفح هبة الشريف:

“حين تجرّب الفَقد المفاجئ، والانتقال من الأمن إلى الرعب، الإهانة، لن تعرف شعور التظاهر بالثبات دائمًا، وأنت بحاجة إلى أن ترتمي ولو في حُضن شجرة، حين تركت بيتي ونزحتُفي غياهب الظلام”.

بهذه العبارة وصف الكاتب والباحث د. محمود عساف تجربة النزوح التي يعيشها بعيدًا عن بيته ومكتبته التي رعاها كأحد أبنائه، حتى انتهى به الحال داخل مخزن غير مجهّز للسكن، بمدينة رفح جنوب قطاع غزة!

يكمل عساف وهو أكاديمي وباحث وروائي أيضًا: “أصعبلحظة هي خروجي من منزلي هربًا بأبنائي إلى خارج حدود الموت، فقدت اليقين بتحديد الوجهة التي سأذهب إليها، وهل سنُعيد نزوح أجدادِنا كما حدث قبل نحو سبعين عامًا مضت”.

بعد إجبار الاحتلال لمئات آلاف المواطنين من سكان شمال قطاع غزة على النزوح إلى جنوبه، صمد عساف لخمسين يومًا، اضطر خلالها للوقوف يوميًا في طوابير الخبز والماء وأي شيء ليأكله هو وعائلته.

خرج عساف من شمال القطاع عبّر حواجز نصبها الاحتلال،ومن بين الجنود الذين يملؤون المكان رعبًا، ليمكث ثلاثة شهور لدى أحد أقاربه مع ثلاث عائلات أخرى في ذات المكان، يعقّب: “لا مجال للراحة ولا النوم، ولا نستطيع تحديد ماذا نأكل أو نشرب”.

قصف الاحتلال الإسرائيلي منزلًا مجاورًا للبيت الذي نزح إليهعساف وعائلته، تضرر البيت ولم يعد صالحًا للسكن، تفرّق الجميع بحثًا عن أماكن تأويهم، وهنا تلقّى اتصالًا من صديقٍيخبره بوجود مخزن غير مجهّز للعيش.

أغمض عينيه عن آخرهما، تنهّد بعمق ثم تابع: “تخيلوا حجم الإنفاق الذي يلزمني لتجهيز مصرف لمرحاض مستور بقطعة قماش، ومعاناة أخرى لتوفير المياه التي نضطر لنقلها يوميًا من مسافة 500 مترًا”.

زفر مجددًا وهو يتساءل بعصبية: “جربت أن تقضي ساعات في البحث عن جالون من المياه الصالحة للشرب؟ لا شيء يضاهي وقوعك في تلك المواقف مرغمًا”.

ولا ينسى عسّاف أبدًا تعرّضه لأزمة صحية بسبب سوء الوضع الإنساني، ففي بيئة غير صحية بالكامل لن يستطيع حماية نفسه مهما حاول، وحين حملته قدماه إلى المستشفى لم يجد العلاج اللازم في مكان يعطي الأولوية للدماء على حساب الآلام، ومع الغلاء الفاحش في الأسعار والذي وصل لأكثر من 10 أضعاف السعر الطبيعي، عانى مثل غيرِه في توفير ما يلزم.

يُعقّب: “ذهبت لاستلام حوالة من شقيقتي، وبعد اقتصاص نصيب محتال الصرافة الذي خصم مبلغًا كبيرًا، اشتريت بما تبقّى من مال عبوةً من الشامبو وأحذية لأبنائي فقط، وكأن الحرب تقول ما زلت تحتاج إلى المزيد من الانتكاسات”.

أبسط الحقوق التي بحث عنها عساف هي الحصول على طبق من البيض، اضطر للوقوف في طابور لثلاث ساعات، وفشل كالعادة، خاصة أنه يعاني آلامًا في الظهر.

عبر هاتفته المحمول، يقلّب الباحث عساف صورًا سابقة لكتبٍ علمية أصدرها، وروايات طبعتها دور نشر شهيرة، وأبحاث شاركها في مؤتمرات علمية، وبيته الذي بناه بجهد سنوات، لا يعرف شيئًا عن مصيره، ويقيم في مخزن غير مجهّز للحياة.

يتابع: “رغم كل محاولاتي لترميم داخلي، وعدم انقطاعي عن الكتابة بالطرق البدائية، إلا أن أحصنة الشوق لحياتي تشدّني بلا هوادة، اشتقت لمكتبتي ورائحة الكتب من حولي، اشتقت لإغراء البحث العلمي، قلبي يؤلمني ولم يعد يحتمل، روحي تتلهّف للكثير من الأشياء، من بينها فكرة أن أبدو ثابتًا من الخارج بينما تُقام مجزرة داخلي كل ليلة”.

كل ما يخشاه عساف أن يكون مكتبه أثرًا بعد عين، أو يستولي عليه من يجهلون قيمة العِلم فيحرقون الكتب، معقّبا: “تخلّيتعنهم عند الزحف إلى الجنوب، لم أصطحبهم حين بلغت القلوب الحناجر، تناسيت أنهم الحناجر الصامتة، لم يخطر ببالي أنهم المخرج من كل هذا البكاء، فجميع كتبي وإصداراتي تركتها نادمًا”.

أما عن العمل البحثي فهو يتطلّب وقتًا طويلًا، وجهاز حاسوب غير متوفر الآن، فيضطر لاستخدام الهاتف المحمول لبعض اللقاءات الاضطرارية لتقديم أوراق علمية يعجز عن الرجوع للمراجع اللازمة، وضعف الإنترنت يحول دون الحصول على موافقات لإجراء البحوث، فيضطر لكتابة الأوراق العلمية بالورقة والقلم، وإرسالها خارج قطاع غزة لطباعتها وإرجاعها لتدقيقها وفي هذا صعوبة كبيرة.

حاليًا، يستعد عساف لإصدار كتاب للمشاركة به في معرض الدوحة للكتاب، جميع أوراقه كُتبت بخط اليد، وأرسلت لزميل خارج الوطن لطباعتها، يختم: “الانتهاكات في كل اتجاه، والحقوق مسلوبة من الجميع”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى