دينا 20 عاما: رحلة نزوح وحلم عروس مستحيل، ومسؤوليات جمة

كتب محمود جودة: رفح

تروي دينا ابنه العشرين عاما قصة معاناتها في الحرب الضروس الدائرة فوق رؤوس الأبرياء في قطاع غزة. تقول دينا: قبل عامين وجدت نفسي في مقام الأم لستة أطفال بعد وفاة والدتي بمرض “كورونا وقتها مَررتُ بتجارب عديدة في عناية الأطفال والاهتمام بهم، حيث كانت أصغرهم طفلة بعمر الثلاث أعوام، لكنني لم يُخيّل لي يومًا أنني سأصبح المسئولة الأولى عن المنزل وأنا بعمر العشرين عامًا وفي ظل عدوان شرس على قطاع غزة بعد غياب والدي للعمل في الأراضي المحتلة.

مساء يوم الجمعة السادس من أكتوبر، وصلت المنزل بعد غياب أسبوع كنت خلاله في زيارة لبيت جدتي “أهل والدتي” في معسكر جباليا حيث كُنت في مرحلة التجهيز لزفافي من خلال شراء مستلزمات العروس من ملابس وأدوات تجميل لهذه المناسبة السعيدة، أنا وخالتي التي أصبحت شهيدة الآن، وأصبحتُ أرتب المَلابس والاحتياجات جيدًا إلى أن استيقظنا صباح السابع من أكتوبر على أصوات غريبة لم نعهدها من قبل، ففتحت الشباك كي أستوضح الأمر فرأيت غابة كبيرة من الصواريخ تنطلق في كل اتجاه وصوب، وقتها لم نكن نعلم شيئًا عمَا يجري، في تلك الأثناء شعرت أن دور العروسة انتهى وعليّ الآن أن أتجهز جيدًا لدور أكبر من دور الأم العادي، فهو دور مركب يملأه الخوف والترقب والأمومة في موقف طارئ لا أعلم أين سينتهي بي، فأخواتي الستة الآن لا يجدون حضنًا شبه آمن غير حضني، وأنا التي أحتاج لأحضان الدنيا كلها كي أشعر بالأمان، خاصة أصغرهم مِنّة التي تبلغ من العمر خمس سنوات.

بعد أيام بدأت أتابع مُجريات الأحداث عن كثب وبدأت السيناريوهات المظلمة تدور في مخيلتي وأخواتي الستة لا يفارقن نظري، فلا أحد يُعيلهن سواي، أنا في نظرهن سفينة النجاة لكن لا أحد يعلم كم هذه السفينة مثقلة وخائفةيقذف بها موج القلق القادم من كل اتجاه، اتصلت بأخوالي وخالاتي في معسكر جباليا لأستقوي بهم فوجدتهم يتجهزون للنزوح إلى منزلنا في حي الصبرة، إلا أنهم لم ينزحوا.

بقينا في منزلنا لا نخرج منه إلا لضرورات الحياة حتي العشرين من شهر نوفمبر، استغرقنا النصف الأول من ليلته في النوم لقد كانت الليلة الأكثر هدوءًا منذ بداية العدوان، وما إن أصبحت الساعة الثالثة والنصف فجرًا، حتى انقلب الحال إلى النقيض تمامًا حيث اشتد القصف على حي الصبرة، وبدأ جُنون العدو وهمجتيه تطال كل شيء، أصبحت أنظر في أعين أخواتيواحدة تلو الأخرى، وأنظر ناحية – جهازي كعروسة مفترضة – الذي لم أكن أضع بالحسبان أنني سأتركه وحيدًا في المنزل، شريط كامل من الذكريات والتخطيط الجيد ذهب أدراج الرياح حتى أنني أصبحت ألتقط أخواتيالبنات الستة كما تفعل القطة بأبنائها ونهرب من بيت إلى آخر من بيوت الجيران التي كانت تُقصف تباعًا وكأن أحد يراقبنا، كان الموت يحيط بنا من كل اتجاه، يقف على ناصية الشوارع المظلمة يتجهز لنا لكنه كان يخطئنا ويصيب الكثير من الجيران الطيبين .. خرجنا من حي الصبرة مع آذان الفجر لا نعرف إلى أين حيث أن منزل جدتي في معسكر جباليا لم يعد الوصول إليه سهلًا وقد انقطعت الاتصالات بهم، سمعت أحد الجيران يقول أنه يجب علينا الإخلاء نحو جنوب وادي غزة، هذا الوادي الذي جففهالاحتلال وبنى على حده الشرقي السدود فغدا ساحة مهجورة من الحياة والناس.

أختي التي تصغرني بعامين طالبة في الثانوية العامة (التوجيهي) كنا ننتظر هذا العام بفارغ الصبر أن تنهي اختباراتها وتحصل على الشهادة، فهي من أوائل مديرية غرب غزة، كنّا نتلهف لفرحة تدخل بيتنا، كنّا نستعد لأن نحقق حلم والدتي بأن تتخرج أختي من أوائل فلسطين فهي تستحق هذه الدرجة وتستحق أمي هذا الفخر، لكنها غابت عن الحياة، وتأجل النجاحوانقلبت الحياة كلها.

أختي ذهبت وسألت أحد الشبان كيف السبيل إلى مدينة رفح! كنتُ أنا في هذه اللحظات قد استقلتُ من مهمة الأمومة والأبوة معًا فأنا بحاجة إلى البكاء استندت إلى آخر جدار ودعته في حي الصبرة وبكيت، بكيت من هول المسئولية كيف سنذهب إلى رفح وبرفقتي ستة أطفال من البنات؟ كيف سنقطع الحاجز الذي سمعنا عنه الكثير من المآسي؟ كيف سأُسكِت جوع وخوف أخواتي الصغار، كيف سأهدهد خوفي أنا، أنا أختهم طفلتهم السابعة.

رفح بالنسبة لي هي المجهول، لقد قطعنا الطريق مشيًا على الأقدام، كلما مشينا قليلاً نسأل أين الطريق إلى رفح ونستكمل خطانا إلى أن وصلنا إلى ميدان النجمة في رفح، انتابتني جولة أخرى من البكاء، احتضنت أخواتي الصغار وشكلنا دائرة وبكينا جميعًا إلى أن سألت أختي مرة أخرى إلى أين نتوجه، لقد أخبرنا أحد النازحين مثلنا أنه بالمقربة منا توجد مدرسة إيواء للنازحين الجدد اسمها مدرسة بئر السبع الثانوية ذهبنا إلى هناك، إلى مأساة جديدة، إلى تجربة مريرة ذهبنا حيث لا يوجد مساحة كافية لنا كسبع فتيات أطفال، لا يوجد متسع داخل الصفوف ولا خارجها في الخيم المتناثرة في ساحة المدرسة، من ثم انتاب أحد الشباب شعور الشفقة علينا – فنحن سبع بنات حسب عُرف غزة لا يمكن تركهن في العراء– شعور الشفقة الذي كان يفتك بي أكثر من صوت الصواريخ وصوت صراخ أخواتي الصغار، شعوره بالشفقة علينا جعله يُجبر عائلته على استضافتنا في خيمتهم في ساحة المدرسة.

قضينا أسبوع كامل في مدرسة بئر السبع دون أي معلومات أو تواصل مع أحد من أقاربنا نظرًا لانقطاع الاتصالات في شمال غزة حيث جدتي وأخوالي وخالاتي، ونزوح أعمامي إلى مناطق مختلفة.

قضينا سبعة أيام بمثابة سبعة أعوام مرت علينا باردة، جافة، لا نستطيع خلالها تأمين أدنى مستلزماتنا من مأكل ومشرب ومكان ملائم للنوم، ودون مكان للاستحمام، حيث كنا نقضي طوال ساعات النهار منذ آذان الفجر وحتى آذان العشاء على حافة ساحة المدرسة تحت أشعة الشمس المباشرةأو المطر فلا مكان لنا، وحين يحل الليل نحتمي في الخيمة التي تم استضافتنا فيها.

بعد هذه الأيام السبع العجاف استطعت التواصل مع أخوالي بعد عودة الاتصالات وإخبارهم بما وصل إليه الحال بنا بعد النزوح من حي الصبرة، فجاء هذا الاتصال بحلٍ مؤقت حيث انتقلنا إلى بيت أحد أقارب أخوالي ومن ثم وصل والدي من الأراضي المحتلة لنبدأ رحلة نزوح جديدة في كراج أحد البيوت في مدينة رفح، حاولنا أن نصنع من هذا الكراج بيتًا صغيرًا يؤوينا ويطمئننا على حالنا، بعدها حاولت الاتصال بأخوالي كي أعطيهم عنواننا الجديد في مدينة رفح، فاكتشفت ان عنوانهم قد تغير إلى الأبد: جدتي ملاذنا الأول والأخير، أخوالي وخالاتي وأبناءهم ثمانية عشر من الارواح أزهقت في منزلهم في معسكر جباليا، كان خبر كالصاعقة، جردني من كل إحساس بالطمأنينة وفتح علينا طاقة الخوف الكبيرة التي لا يمكن لها أن تُغلق، فنحن الآن ما زلنا في مدينة رفح التي لم أتخيل يومًا أنني سأزورها لو مرة واحدة، أنا الآن أسكنها منذ خمسة أشهر ولا أعلم إلى متى، ولا أعلم إن كنت سأموت هنا أم سأرجع إلى بيتنا المدمر في حي الصبرة، كل يوم أسأل نفسي هل من المعقول أن أجد ما قمت بشرائه قبل الحرب من تجهيزات للعرس، ثم يأتيني الجواب أنه لا عُرس في هذه المدينة بعد الآن، كل ما في المدينة يجلب لنا الحزن لأعوام تفوق أعمارنا.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى