ولادة تحت النيران…إنجي تروي تجربتها المرعبة

دير البلح – خديجة مطر:

كان صوت القصف مرعبًا وهو يمتزج بصرخةٍ تشقُّ العنان وسط خيام النايلون الباردة في ليلٍ حالك السواد، أضاءه طفل جديد بعد ولادة متعسرة لأمٍ رأت الموت مراتٍ ومرات.

إنجى حجاج (20 عامًا) أمٌ شابة تبدأ حكايتها مع مولودها وسط حرب قاسية، إذ كانت تسكن مخيم البريج شرق محافظة الوسطى وسط قطاع غزة، نزحت مع زوجها وطفلتها الأولى صوب مدرسة أبو هميسة إحدى مدارس أونروا لإيواء النازحين، وكامرأة حامل، عاشت ظروفًا قاسيًة من فقدان للخصوصية والراحة، ومع تهديد الاحتلال باجتياح المنطقة نزحت مرة أخرى إلى خيمة من النايلون في دير البلح وسط القطاع.

تمسح إنجي جبين رضيعها الذي بلغ شهره الرابع، وتروي: “في ليلة عصيبة قضيناها تحت القصف العنيف والمطر الغزير وتوغل الجيش الإسرائيلي في البريج والنصيرات، بدأت معاناتي مع أوجاع المخاض داخل الخيمة الساعة الثانية فجرًا، ومع صعوبة التحرّك في هذا الوقت، خرج جزءٌ من رأس الجنين وأنا داخل الخيمة، حاولنا التواصل مع جهات الاختصاص لنقلي للمستشفى ولكنهم رفضوا وطلبوا مني الحضور، لأضطر للخروج في هذا الوضع الحرج سيرًا على الأقدام”.

بخطىً ثقيلةً سارت إنجي وسط أجواء مرعبة يملؤها صوت القصف والأحزمة النارية القريبة من المكان، وامتزجت دموع الخوف على جنينها بدموع الرعب من الموت الذي يحيط بها من كل جانب، وكلما همّت بالسقوط أرضًا تندفع تحت رعب صوت نباح الكلاب الضالة، تضيف: “رحلة عذاب لن أنساها”.

في مستشفى شهداء الأقصى بمدينة دير البلح جنوبي قطاع غزة، وضعت إنجي مولودها الثاني في أوضاعٍ غير إنسانية، بعد رحلة نزوحٍ متكررة أجبرها عليها الجيش الإسرائيلي، برفقة طفلٍ لم يعرف من الحياة بعد إلا أصوات الصواريخ، والغلاء الفاحش لاحتياجاته الشخصية، ليفقد أبسط حقوقه من حليب وحفاضات أطفال وملبس ورعاية طبية قبل أن يعي الدنيا.

بعيونٍ ذابلةٍ ووجهٍ متعب تكمل: “لم أحصل على حقي في الرعاية الكاملة على مدار أربعةُ شهور، منذ وصولي لقسم الولادة قرر الأطباء إتمام عملية الولادة على فرشة ملقاة على الأرض، بجوارِها عشراتُ المصابين والمرضى والنازحين، تعلوها روائح الموت والدم في كل مكان، وطبيب غير مختص يشرفُ على ولادتي، خاصة وأن الأطباء والممرضين انشغلوا بالشهداء والمصابين”.

عانت إنجي من مرحلة حمل صعبة إثر فقدان الأمان والرعاية الصحية وسوء التغذية وشرب مياه ملوثة، تُردِف: “كنت أعيش بقلق كبير كيف سأنجب طفلي بالخيمة، وكيف سأجد له مكانًا آمنًا، وكيف سيخطو خطواتِه الأولى هنا حال امتدت الحربُ أكثر، صراعٌ نفسيٌ يدمر عقلي”.

بعد الولادة قرر الطبيب نقل إنجي إلى مستشفى العودة في مدينة النصيرات، في ظروف أشبه بعملية انتحارية، كون الدبابات على بعد أمتارٍ منها، كان عليها إجراءُ فحوصاتٍ غير متوفرة في مستشفى شهداء الأقصى، لتمكث ثلاثُ ساعاتٍ عادت بعدها إلى الخيمة التي لا تتجاوز خمسةُ أمتارٍ تتشاركها مع ثمانية أفراد آخرين.

وتكفل اتفاقية جنيف الرابعة حماية مزدوجة لإنجي في أوقات الحرب كونها بالدرجةِ الأولى مدنيةٌ وامرأةُ حامل، فقد فُرض عليها الخروج من المشفى وغرف الرعاية الطبية، بعد الولادة مباشرة، لاستقبال مريضٍ آخر في نفس المكان.

وعن أكثر المعيقات التي تواجه إنجي حاليًا بعد الإنجاب، توضح: “يمرض طفلي بشكل ٍمتكررٍ، أحاول بشتى الطرق تدفئته وحمايته من البرد، لكن الأمر فوق طاقتي، فالخيمة مصنوعة من النايلون، وتمكينها يحتاجُ المزيد من المال، تتفاقم معاناتي صباحًا حين ترتفعُ الحرارة، هذا غير صعوبة توفير الحليب والحفاضات وبات تفكيري محصورًا في حالة الغلاء الفاحش لاحتياجات طفلي”.

أما دورات المياه فهي معاناة أخرى لإنجي، التي يتوجّب عليها الوقوف في طابور يومي يُشعرها بالحرج حين تذهب إلى المرحاض العام، فتشعر بانتهاك الخصوصية وجرح الكرامة الإنسانية، ناهيك عن عدم توفّر المياه داخله وقلة النظافة وانتشار الأمراض، أما الاستحمام فقد بات ترفًا تفتقده بشدة.

تبتسم بقهر وهي تنظر إلى طفلها: “ما زال بحاجة إلى شهادة ميلاد، حزينة لأنني لم أفرح بقدومه فلم يشاركني الفرحة أحد، كل ما أفكر فيه الآن هو الوصول بعائلتي لبرّ الأمان والعودة لبيتي المدمّر حتى وإن كان ركامًا”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى