سماهر وخالد استشهدا وقلبُ أمهما لم يعد يحتمل

رفح – سالي الغوطي:

تجلس السيدة يسرى صالح على باب خيمتها في حي الشابورة بمدينة رفح جنوب قطاع غزة، بعد أن أُجبرت قسرًا على النزوح من بيتها في شارع النفق وسط مدينة غزة، إلى جنوب القطاع.

تزفر السيدة المكنّاة أمُ طارق بشدة وهي تضع يدها على خدّها ثم (تهشّ) الذباب الذي يحوم حولها، وتستذكر أبناءها الشهداء خالد وسماهر، التي استشهدت مع طفلتيها، وبقيت أم طارق تحمل آلام الفقد ومأساة النزوح.

تقول السيدة الخمسينية وهي تشير إلى خيمتها المصنوعة من النايلون وبعض الأقمشة المهترئة: “أقيم فيها مع ابنتي وأطفالها الثلاثة، وهي بالطبع لا تكفينا، أضع فيها أدوات المطبخ التي حصلت عليها من أهل الخير، في النهار يتزاحم أحفادي لتكسير الخشب لإشعال النار من أجل تحضير الطعام رغم أن أكبرهم يبلغ 10 سنوات فقط”.

على جانب الخيمة تضع السيدة بعض أدوات المطبخ القديمة والتي تعتمد عليها في صنع الطعام، وجالونَ مياهٍ للشرب وآخر لمياه الاستخدام المنزلي، بينما لا يكفّ الذباب عن التحليق والطنين في الخيمة شديدة الحرارة نهارًا والباردة ليلًا، تضع السيدة يدها على خدها ثم تعقّب بابتسامة حزن: “هل رأيتم حال أم أحمد في مسلسل التغريبة الفلسطينية، أنا مثلها تمامًا”.

وتشير التقديرات إلى أن أعداد النازحين في مدينة رفح وحدها وصلت إلى 1.3 مليون نازحٍ إلى جانب 250 ألفًا من سكانها، في مساحة لا تتعدى 64 كيلو مترًا.

ترسم أم طارق على وجهها مجددًا ابتسامة شاحبة وهي تروي كيف فقدت ابنها وابنتها في حادثين منفصلين وكأن عليها أن تجرّب مأساة الفقد أكثر من مرة، تقول عن ابنها خالد: “كان فاكهة البيت، بشوش وصاحب نكتة، لديه الكثير من الطموحات حيث كان يدرس الإعلام، قبل الحرب كان يستعد وأصحابه لحفل تخرجهم”.

عاد الصمت يخيم على الخيمة ثم زفرت وكأنها تلقي حملًا عن صدرها، تلفتت يمينًا ويسارًا بحثًا عن هاتفها المحمول، سرعان ما فتحته لتملأ عينها بصور ابنها خالد الذي خرج في بداية الحرب ليعمل سائق سيارة إسعاف في مستشفى الشفاء، ويوم 28 أكتوبر استهدف الاحتلال السيارة التي ظن خالد أنها آمنة.

تكمل: “حرمني الاحتلال أيضًا ابنتي سماهر، التي استشهدت مع طفلتها في قصف منزلهم على رؤوسهم، وظلّت طفلتها الثانية تصارع الموت داخل مستشفى الشفاء، لاحقًا تم تحويلها إلى مستشفى ناصر في خانيونس ثم إلى المستشفى الأوروبي دون أن تحصل على تحويلة طبية رغم خطورة حالتها، إذ كان يأتي الرد بالرفض الأمني، حتى ماتت وحرموني آخر من تبقّى من رائحة ابنتي سماهر”.

مسحت دموع انهمرت وأكملت بابتسامة حزن عريضة: “ليس سهلًا أن تكون نازحًا في خيمة بعد أن كنت أمتلك بيتًا من أربعة طوابق لا ينقصه شيء، هنا أعيش واقعًا صعبًا وقاسيًا، بعد رحلة نزوح من غزة إلى مخيم دير البلح وسط قطاع غزة، ثم إلى مستشفى شهداء الأقصى وانتهى الحال بي في رفح حيث لم أجد مساعدة من أحد في توفير مأوى لي وأجبرنا على صناعة خيامنا بأنفسنا”.

تكمل: “لا أستطيع النوم والحصول على راحة لجسدي المنهك من الأوجاع المتتالية، بسبب الذباب والحشرات وضيق المكان، الخيمة أصبحت مهترئة ولا تناسب أيٌ من فصول السنة”.

تضيف: “نعيش على المساعدات من الجمعيات والمدارس لأننا لا نمتلك المال الكافي لتلبية احتياجاتنا اليومية، بعد أن تعطلت سيارة زوجي التي كان يعمل عليها، البعضُ من مقدمي المساعدات يأتون هنا بغرض تقديم المساعدات وآخرون يحصلون على صور ولا يقدمون لنا شيئًا”.

عادت مرة أخرى لتلتقط هاتفها بيدها المحروقة والعاجزة عن فعل أيٌ شيء بعد أن سُكب الزيت الحار على يدها حين كانت تعدُ الطعام، تقول:” لم تعد عائلتي كبيرة، منهم من نال الشهادة والبعض الآخر تشتت بفعل الحرب، بالكاد نستطيع التواصل، لم يتبقَ لي سوى ابنتي وأطفالها الثلاثة، خاصة بعد أن فُقد والدهم منذ بداية الحرب ولا نعلم عنه شيئًا”.

أغمضت عينيها وتنهدت بحرقة وهي تكمل: “كثيرًا ما أجلس بمفردي أتذكر أيامي قبل الحرب، أبدًا بالكتابة لأتناسى أوجاعي من أجل إكمال حياتي، على أمل العودة إلى بيتي الذي لا أعرف مصيره”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى