أسماء لبد .. امتياز بلا شهادة وموهبة بلا لون

غزة- هبة أبو عقلين: 

“كنت من أوائل دفعتي في تخصص العلاج الطبيعي، طالبة امتياز، لم يتبقّ لي سوى المواد العملية وسنة مزاولة لأتخرّج، لكن الحرب جاءت فجأة، وقطعت الطريق تمامًا”.

بهذه الكلمات استهلت الشابة أسماء لبّد (23 عامًا) حديثها وهي تمسك بطرف قماش خيمتها المهترئة في مخيم للنازحين وسط مدينة غزة، تنظر إلى كتبها الجامعية وقد كانت على بعدِ خطوةٍ من التخرج، قبل أن تسلبها الحرب كل شيء: مقعدها الجامعي، شهادتها، بيت عائلتها، وحتى لوحاتها الفنية التي كانت تعبّر بها عن روحها، لم يتبقَّ من حلمِها سوى رمادِ منزلٍ منهار، وخيمة لا تصلح للحياة.

“حقي في التعليم تحوّل إلى حُلمٍ مهدور”، بحزنٍ تقول أسماء التي تعيش في الخيمة مع والدتها سمية (45 عامًا)، وشقيقتيها ولاء (18 عامًا)، نسيبة (17 عامًا) وشقيقها جعفر (14 عامًا)، بعد أن دُمّر منزلهم الواقع قرب مستشفى الشفاء غرب مدينة غزة كليًا في الأيام الأولى للحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، التي بدأت منذ 7 أكتوبر 2023م.

بغصةٍ وصوتٍ مختنق تكمل: “كل كتبي ودفاتري وما يخص جامعتي فُقد، حتى لوحاتي الفنية التي رسمتها بقلبي، وأدوات الرسم التي كنت أعيش بها عالمي الخاص، كلها دُفنت تحت ركام منزلنا، دفَنت ذكرياتي؛ وجزءًا مني معها”.

تختلط الحسرة باليأس في صوت أسماء وهي تتحدث عن الدمار الكبير الذي لحق بمنازل المواطنين في مدينة غزة، وجامعاتها أيضًا، حتى المختبرات العلمية والمستشفيات التي يفترض أن تكون ميدانًا لتدريبها طالها القصف وبعضها خرج عن الخدمة، فلا مكان تمارس فيه مهنتها؛ ولم تتبقّ لديها أي أدوات، كل ما أسسته على مدار ثلاث سنوات اختفى في لحظة.

تشيح بوجهها وهي توضح بعصبية: “قطاع غزة يحتاج إلى تخصصي أكثر من أيِ وقتٍ مضى، يوميًا لدينا حالات بتر، شلل، إصابات معقّدة، ونحن لا نستطيع المساعدة، نرى الحاجة ونعرف ما يمكننا فِعله لكن لا وسيلة لدينا، ولا مكان، ولا حتى شهادة”.

أسماء واحدة من آلاف الطلبة الفلسطينيين في قطاع غزة، لا يملكون وثيقة تثبت اجتيازهم السنوات الدراسية، ما يمنعها من التقدّم لمنحة دراسية خارج قطاع غزة، “حتى لو أردت الهروب من هذا الواقع لا أستطيع، لا أملك شهادة، ولا سجل أكاديمي، ولا حتى ورقة تثبت أنني تخرجت”، تقول.

لكن خسارة أسماء لم تقف عند التعليم فقط ؛ النزوح القسري إلى جنوب قطاع غزة كذلك، سرق منها وداع أحب الناس إلى قلبها!

تدمع عيناها وهي تروي: “استشهد والدي وأنا في التاسعة من عمري، ومن بعده كان عمي غازي (60 عامًا) يملأ الفراغ، يمنحني الحنان ويشجعني، لكنه استشهد مع بناته وحفيدته وزوج ابنته، كما استشهدت زوجي عمي الثاني، وبناتها الستة، وابنة عمي وأطفالها الخمسة، وكلهم ما زالوا تحت أنقاض منازلهم”.

لكن أسماء التي تعيش غصة الحرمان من التعليم، والعمل، وتعاني حياة النزوح، يملأ قلبها المرارة على عمها الذي تعتقله قوات الاحتلال ولا يعلم أن عائلته استشهدت، بينما خرج عمها الثاني في صفقة تبادل، ولكن كما تصف “لا أحد يعود كما كان”.

تمسح دموعها وهي تكمل: “حتى نحن نعيش مجاعة خانقة بلا معيل ولا سند، لم يتبقّ لي سوى أمي وإخوتي نعيش داخل خيمةٍ لا تصلح للعيش الآدمي”.

تنظر إلى زوايا خيمتها بحسرة وتكمل: “الخيمة حارّة بشكل لا يُطاق، بلا خصوصية، بلا أمان، نزحنا أكثر من ثماني مرات، وكل مرة من ضيق إلى أضيق”.

في ديسمبر 2023م، عاشت أسماء واحدة من أقسى التجارب بعدما نزحت من غزة إلى خانيونس جنوب القطاع، حيث حُوصرت مع أكثر من 20 فردًا من عائلتها داخل منزل أحد أقاربهم في حي الأمل، بسبب الاجتياح الإسرائيلي للمنطقة.

تقول: “شهر بلا ماء، بلا طعام، كنا نرتشف غطاء زجاجة ماء في اليوم لنطفئ عطشنا، خرجنا بأعجوبة، حملت أغراضي على ظهري، ويدي، وحتى بأسناني، ومشيت 8 كيلومترات نحو رفح عبر طرقٍ مدمرة، كنت أرتجف من التعب، لكن لم يكن أمامي سوى النجاة”.

لم تكن الدراسة متنفس أسماء الوحيد، بل الرسم أيضًا، كانت ترسم لوحات نابضة بالحياة، حتى حلّت الحرب ومحت كل شيء، توضح: “كل لوحاتي وأدواتي الفنية دُمّرت تحت ركام المنزل، لم أرسم منذ بدأت الحرب، لا أدوات، لا أوراق، ولا حتى مساحة آمنة تُشبه الحياة”.

ويعدّ التعليم حقًا تكفله القوانين الدولية، ومنها العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، الذي نص في مادته (13) على أن لكل فرد الحق في التعليم.

ورغم كل ما فُقد، لا تزال أسماء تتشبّث بما تبقّى من حُلمها: “ما زلت أحلم أن أُكمل دراستي، وأصبح معيدة في الجامعة، كنت أريد أن أدرّس، أن أنقل ما تعلّمت، حلمي لم يمت، فقط مُنع من الخروج إلى النور”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى