جحيم النزوح: معركة سهير وأطفالها وسط أكوام النفايات
غزة- نغم كراجة:
في زاويةِ شارعٍ غرب مدينة غزة، نصبت عائلة السيدة سهير العرابيد (34 عامًا) خيمة صغيرة بالكاد تقي ساكنيها حرّ الصيف، تنتشر حولها أكوام النفايات المتعفّنة، تملأ المكان بالذباب والبعوض، وتخرج منها جرذانٌ لا تفارق ليلًا ولا نهارًا.
“أصبحت حياتي اليوم بين القمامة والذباب، كأنني أعيش في مكبّ نفايات لا في مأوى للبشر”، بمرارة تقول سهير هذه العبارة وهي تضع طرف منديلها على أنفِها في محاولة لتجنب الروائح الكريهة التي تتصاعد كأنها غيمة سوداء خانقة، تجعل التنفس مهمة يومية صعبة، وتحيل حياة من يقبعون داخل الخيمة إلى كابوس.
كل شيء حول الخيمة بات جزءًا من تفاصيل يومها، أثناء محاولتها الطهو، تهاجمها الروائح المتعفنة، وفي الليل تتسلل الجرذان بين أغطية أطفالها الأربعة، بينما يلسعهم البعوض طوال الوقت، تضرب بكفِها على الأرض وتقول: “لم يعد يهمني الذباب أو الجرذان، كنت أبحث فقط عن قطعة قماش تغطي أولادي من المطر، لكنني وجدت نفسي أغسل وأطبخ وسط القمامة المتعفنة”.
تعود جذور مأساة سهير إلى حرب 7 أكتوبر 2023م، وما تلاها من نزوح متكرر، في فبراير 2024م، نزحت مع أسرتها (زوجها وأطفالها الذين كانوا ستة) من بيتها في حي الشجاعية شرق مدينة غزة، إلى مدرسة في حي الدرج وسط المدينة، تحوّلت إلى مركزِ إيواءٍ يكتظ بالنازحين، يخنقهم برائحة مياه الصرف الصحي.
تضم رضيعتها إلى صدرها وهي تقول:” كنت أركض خلف أطفالي وأمنعهم من الاقتراب من ركن النفايات، وأخاف عليهم من الأوبئة مثل خوفي من القصف”.
في نوفمبر 2024م وقعت المأساة، غارة إسرائيلية استهدفت صفًا مجاورًا لها، مشهد دموي اهتزت سهير وهي ترويه: “رأيت أجساد النساء والأطفال تتطاير أمام عيني، وجدت طفلي محمد (12 عامًا) مضرجًا بدمائه، لا أذكر كيف صرخت، كل ما بقي هو صدى صوته وهو يناديني قبل أن يصمت للأبد”، استشهد طفلها وأصيبت هي بشظايا في ظهرها وأصبع يدها اليمنى، وترك إعاقة مؤلمة.
بالدموع تكمل: “بعد أيامٍ فقدت طفلي عدي (13 عامًا) وهو يحاول شراء كيلو دقيق من سوق الزاوية وسط غزة، الفقد أصبح اسمي الجديد، لم يتبقَّ لي سوى أربعة أطفال يحيطون بي مثل أشجار صغيرة في صحراء قاحلة”.
رحلة نزوحٍ تكررت مجددًا في إبريل 2025م، حين أجبر جيش الاحتلال سكّان أحياء التفاح والدرج على النزوح تحت القصف، تقول سهير: “وجدت نفسي مع أطفالي الأربعة أمام خيمةٍ أخرى، هذه المرة ملتصقة بأكوام النفايات التي تحاصرهم من كل صوب”.
انعكست هذه البيئة الملوثة على صحة أطفالها، طفلتها جوري التي لم تكمل عامها الأول أصيبت بالتهابات حادة وإسهال متكرر، تقول سهير وهي تبكي: “حفاضٌ واحد صار حلمًا، كنت أضع لها الفوط اليومية الخاصة بالفتيات البالغات بدلًا عنه لكن مع الحرارة والذباب، أصيبت بالتهابات وإسهال واصفرار في جسدها”.
بمرور الوقت، تراجعت قدرة سهير على الرضاعة الطبيعية بسبب التهابات في صدرها نتيجة الروائح المتسربة:” حتى الحليب لم يسلم من روائح القمامة، أصبحت طفلتي لا ترغب بالرضاعة”.
بقية أطفالها لم ينجوا من المرض، أصيبوا بنزلات معوية متكررة، وانتقل إليهم الجدري حتى باتت الخيمة أشبه بغرفة عزل ميدانية بلا دواء، تنظر إليهم سهير وهم يتقلّبون على الأرض بحرارة مرتفعة: “كنت أضع يدي على جباههم الحارّة وأهمس “سامحوني، لم أعد أملك دواءً ولا مكانًا نظيفًا يأويكم”.
أما سهير نفسها، فهي تعاني من صعوبة في التنفس جراء تعفن بقايا الطعام المكّدسة حول الخيمة وتسرب الروائح الكريهة إليها طوال اليوم، تحكي بحسرة: “نعيش محاصرين بالتلوث لدرجة أننا لا نستطيع حتى الأكل من فظاعة الرائحة”.
قبل الحرب، كان لسهير حياة بسيطة لكنها كريمة في حي الشجاعية، تروي وهي تستعيد الذكريات: “كان لي بيت صغير… لم تكن الجرذان تزورنا ولا الذباب يحوم حولنا، وزوجي لديه راتب جريح نعيش عليه”، تسكت برهة ثم ترفع رأسها إلى السماء: “اليوم بيتي أصبح حفرة من النفايات، وأطفالي يمرضون كل يوم، وأنا عاجزة عن حمايتهم أو حتى توفير مأوى في مكان نظيف، هل يعقل أن تطهو الطعام وخلفك أكوام من القمامة؟”.
ويخالف ما تعانيه سهير وعائلتها اتفاقية جنيف الرابعة بشأن حماية المدنيين وقت الحرب، وخاصة المادة (53) التي تحظر على قوة الاحتلال تدمير منازل المدنيين أو إجبارهم على النزوح القسري، كما أن المادة (56) من الاتفاقية نفسها تنص على واجب الدولة المحتلة في ضمان الرعاية الصحية ومنع انتشار الأمراض.
ختامًا تضم سهير طفلتها الصغيرة إلى صدرها كمن يخشى أن تضيع: “أريد فقط أن تنتهي هذه الحرب، وأعيش يومًا واحدًا بلا ذباب، بلا روائح متعفنة، بلا خوف من أن أفقد طفلي القادم، وبلا مشهد أكوام النفايات اليومي أمامي”.