عظام لطيفة تتآكل ورضيعتها تبكي جوعا

غزة- هبة أبو عقلين:

“أشعر أنني أموت وأنا واقفة”.

هكذا وصفت الشابة لطيفة اللوح (31 عامًا) حالها وهي تحاول تهدئة رضيعتها وردة التي لم تتجاوز شهرها الثاني، بينما طفلتها الأولى رجاء (عامان) تبكي من الجوع واقفة في زاوية الخيمة.

تقيم لطيفة مع زوجها زهير اللوح (33 عامًا) داخل خيمةٍ من القماش القديم، في مخيم اليرموك للنازحين وسط مدينة غزة، وفي خضم لهيب الصيف وموجة المجاعة التي ضربت قطاع غزة بسبب الحرب الإسرائيلية، وضعت مولودتها الثانية دون دواء، دون رعاية صحية، ودون أدنى مقوّمات الحياة الانسانية.

تقول بصوتٍ ضعيف متقطع وقد أنهكها الجوع: “أصعب ما مرّ عليّ بعد الولادة ليس الألم، بل عجزي عن امتلاك حفاضة واحدة لمولودتي، كنت أقطع القماش لأستخدمه بدلًا عنها، لكن هذا سبب لها تسلخات وآلام، كنت أبدّل القماش باستمرار ولكن دون فائدة، لا يتوفر دواء ولا مراهم لترطيب جلد طفلتي”.

حملت لطيفة رضيعتها إلى المستشفى وهناك رأت عشرات الأطفال يعانون ذات حالتها، واكتفت الطبيبة بالقول إن هذا حال الجميع، لا حفاضات (بامبرز) لا حليب، ولا علاج.

تتنهد لطيفة بحرقةٍ وتضيف: “لم أجد أمامي سوى تركها بلا شيء، أضعها على قطعة قماش وتحتها نايلون في الهواء الطلق، كانت تصرخ ألمًا، تئن من الجوع ومن ألم الجروح، أنا لا حيلة لي ولا قوة، بين يدي طفلتين، وردة لا تهدأ ورجاء تطلب الخبز الذي لا أملكه”.

لم تكن معاناة لطيفة وليدة اللحظة، في بداية حملها كادت تفقد جنينها بعد نزيفٍ حاد ناتج عن الإرهاق إذ كانت تصطف يوميًا على أبواب التكيات لجلب الطعام الذي يسد رمقهم، بعدما فقد زوجها عمله وظل يحاول البحث دون جدوى عما يؤمّن قوت يومهم.

تروي لطيفة حكايتها مع الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة منذ اندلاعها يوم 7 أكتوبر 2023م، تقول: “كنت أعيش في منزلي وسط مدينة غزة، مع زوجي زهير وطفلتي رجاء، لم تكن أتمت شهرها الثاني بعد، لم تمض أيام حتى تحوّلت المدينة إلى ساحة نار، والقصف من حولنا لا يتوقف، والدخان يغطي السماء، كنا نلاحق بصيص الأمان لكننا لم نجده”.

أواخر نوفمبر 2023م، أجبرهم جيش الاحتلال الإسرائيلي على الإخلاء بأوامر إنذار، فنزحوا إلى دير وسط قطاع غزة عبر الحواجز العسكرية، “رأيت الموت بعيني حين اعتقلوا زوجي لساعات، بينما تم قنص شبان آخرين بدمٍ بارد على الطريق ذاته”، تقول لطيفة بعصبية وهي تستعيد المشهد.

في دير البلح وسط القطاع، عاشت لطيفة فصولًا جديدةً من المعاناة، خيمة مهترئة كانت ملاذ العائلة، وفي هذا الجو البائس، حملت بطفلتها الثانية وسط البرد والخوف والجوع، فلم يكن لديها طعام ولا رعاية طبية، ترددت مرارًا على التكيات للحصول على طعام يسدّ جوع العائلة، وذات يوم شعرت بنزيفٍ فهرعت للمستشفى خائفة، كان الجنين بخير لكن الحمل في حال الخطر.

 بجسدٍ منهك تتابع لطيفة: “عانيتُ من سوءِ تغذيةٍ حاد طوال فترة الحمل، لم أتناول ما يكفي، ولم أرتح يومًا، كل ما حولي كان يوحي بالموت، ولكن قلبي تعلّق ببصيصِ حياةٍ ينمو داخلي”.

مع دخول الهدنة حيز التنفيذ في يناير 2025م، عادت إلى غزة مشيًا على الأقدام، بيتهم كان مدمرًا، فأقاموا خيمة في مخيم اليرموك، وفيها حان موعد ولادتها، فتوجهت إلى مستشفى الصحابة مشيًا على الأقدام لنصف ساعة بسبب صعوبة المواصلات، ترافقها إحدى الجارات.

تضيف: “أنجبت وردة أواخر يوليو 2025م، كانت هزيلة وزنها لا يتجاوز كيلوين، لم أستطع إرضاعها بسبب ضعف جسدي، ولم أستطع جلب حليب صناعي مغذي ولا حتى توفير الحفاضات، لففتها بأقمشة قديمة وشراشف، الأمر الذي سبب لها تسلخات والتهابات جلدية، ولم أجد دواء، فالمستشفيات فارغة، حتى أدوية أتقوّى بها غير موجودة”.

تكمل: “ابنتي رجاء كانت تبكي كل ليلة جوعًا، ليس لدي الخبز لأطعمها وأسدّ جوعها، حين ولدت أعطاني أحد الجيران طبقًا من شوربة العدس أتقوّى به، كنت بالكاد أتمالك نفسي، لا طاقة، لا دواء، لا طعام، ولا حتى نوم، جسدي منهك وروحي أيضًا، عظامي تؤلمني حتى الآن من آثار الولادة”.

ويخالف ما تعرضت له لطيفة اتفاقية جنيف الرابعة الخاصة بحماية المدنيين وقت الحرب، والتي نصت على في مادتها (55) على ضرورة أن تلتزم قوات الاحتلال بضمان توفير المواد الغذائية والإمدادات الطبية للسكان المدنيين، كما تنص المادة (56) على ضرورة اتخاذ كل التدابير لمنع انتشار الأمراض، وضمان عمل المرافق الطبية وتوفير الرعاية الصحية، لا سيما للنساء الحوامل والأطفال.

تختم لطيفة: “كل ما أتمناه أن تنتهي هذه الحرب، وتتوقف المجاعة، أن تكبر رجاء ووردة طفلاتي بأمان وأن يعشن عيشة انسانية، وليس العيش في خيمة، وأن يتنفسن الحياة مثل أطفال العالم”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى