بترٌ مزدوج… شيرين تفقد عائلتها وساقيها أيضًا

غزة- نغم كراجة:

“شعرتُ لحظتها أنني دُفنت حيّة في قبر”.

بهذه العبارة بدأت شيرين أبو الكاس (17 عامًا) حديثها، وهي تجلس على كرسي متحرك بعد أن فقدت ساقيها وأسرتها دفعة واحدة في قصف إسرائيلي طال منزلهم بحي التفاح شرق مدينة غزة مساء 25 مايو 2025م.

لم يكن ذلك المساء مختلفًا سوى أن رائحة العدس الذي أعدّته والدتها للعشاء كانت الأخيرة، وأن شيرين، التي اعتادت النوم قرب والدها شفيق وأشقائها الأربعة لم تتوقع أن يبدد الانفجار كل شيء.

تسرد تفاصيل المجزرة بصوت مرتجف: “كنت نائمة حين وقع القصف، استيقظت لأجد عمود البيت على قدمي وصخرة تضغط على صدري.. صرخت بأسماء أهلي فلم يجبني أحد ثم عدت للنوم من شدة الصدمة”.

كان جسدها عالقًا تحت الركام، أحد الجيران تمكن من تحرير الجزء العلوي من جسدها، وبقيت ساقاها محاصرتين تحت العمود حتى وصلت طواقم الدفاع المدني.

حين انتُشلت كانت تشعر بألمٍ شديد في قدميها، وحاولت أن تسند ظهرها لتنظر إليهما، “فوجئت بأنني بلا قدمين، أغمى عليّ فورًا”، تهمس شيرين وهي تمسح دموعها.

تقول: “حين سحبوني، كنت أتنفس الرمل… أذناي مليئتان بالحجارة.. لم أتصور أنني فقدت قدميّ”.

في مستشفى المعمداني وسط مدينة غزة، خضعت لعمليات بترٍ مزدوجة استمرت لعشرين يومًا متتالية لتعديل مستوى البتر وسط نقص الدواء وسوء التغذية بسبب إغلاق المعابر.

بعد ثلاثة أيام من إصابتها، أبلغوها بخبر صادم: “استشهدت والدتي الثلاثينية سميحة، شقيقتي هبة (10 أعوام)، أشقائي نضال (21 عامًا)، وأحمد (3 أعوام)، جدي، جدتي، عمتي، عمي وأبناؤهم.. لم يبقَ أحد منهم حيًا إلا أنا وأخي مصطفى (14 عامًا) الذي أصيب برضوض في الظهر”.

في القصف ذاته، خسرت شيرين 17 فردًا من أسرتها، ولم يُنتشل من تحت الأنقاض سوى جثمان والدها فيما بقي الآخرون تحت الركام دون وداع أو دفن.

وفي منتصف يونيو 2024م، استشهد شقيقها الأكبر صبحي (22 عامًا) في قصف استهدف منزل عمتها في مخيم البريج أثناء نزوحه من شمال القطاع إلى وسطه، “رحل دون وداع، مثلهم جميعًا”، تقول شيرين.

منذ بدء العدوان في 7 أكتوبر 2023م، رفضت العائلة النزوح رغم الجوع والمخاطر لكنهم اضطروا لاحقًا للانتقال إلى غرب غزة ثم إلى مراكز إيواء قبل أن يعودوا لمنزلهم المتضرر، وتبين: “عدنا لنعيش فيه رغم الأذى لم يكن لنا مكان آخر”، وتضيف أن شقيقها نضال كان يجلب المساعدات من مراكز التوزيع الخطيرة لكن والدهم منعه بعد استشهاد صبحي.

مع تجدد الحرب في 17 مارس 2025م، وإصدار جيش الاحتلال الإسرائيلي أوامر إخلاء في 14 إبريل نزحت العائلة مجددًا إلى حي الرمال لكن الجدة أصرت على العودة إلى المنزل في حي التفاح، وهناك وقعت المجزرة.

قبل العدوان كانت حياتهم بسيطة لكنها مستقرة “كنا نعيش بإمكانيات بسيطة… أبي يتقاضى راتبًا من السلطة الفلسطينية.. لم نكن بحاجة لأحد، ولم نتخيل أن نصل لهذه المرحلة”.

اليوم، تقيم شيرين في منزل أحد الأقارب في حي الشيخ رضوان تحت رعاية عمها لكنها لا ترى في حياتها ما يشبه الأيام العادية، فقدت ساقيها، ومعهما حلمها بالدراسة، فقد كانت تتحضر لامتحانات الثانوية العامة منذ عام كامل.

“وزارة التربية أخبرتني أن امتحان التوجيهي أُجّل لجيل 2008، لكن كيف أدرس والإنترنت مقطوع، ولا أملك حتى الهاتف؟”، تتساءل.

ورغم أنها حصلت على تحويلة للعلاج بالخارج، فإن إغلاق المعابر فاقم من معاناتها، وحرَمها حقها في السفر واستكمال العلاج “أحتاج لتركيب أطراف صناعية… لكني لا أستطيع مغادرة غزة”، تقول.

وتشير إلى أنها تجد صعوبة بالغة في الحركة والتنقل نحو المستشفى لتلقّي المتابعة الطبية خاصة في ظل دمار الطرق وانعدام وسائل النقل كما أن حالتها الصحية تستوجب تغذية خاصة لا تتوفر في ظل انقطاع الإمدادات وانهيار النظام الغذائي.

“كلما نظرت إلى نفسي على الكرسي المتحرك أشعر أنني عاجزة، أنهار أمام نفسي”، تزيد.

ويعدّ ما تعرضت له شيرين انتهاك لاتفاقية جنيف الرابعة الخاصة بحماية المدنيين وقت الحرب، والتي عدّت الهجوم العشوائي على منازل المدنيين دون تحذير خرقًا للمادة (51) من البروتوكول الإضافي للاتفاقية، فيما يُصنّف القتل والتدمير الواسع دون ضرورة عسكرية ضمن الانتهاكات الجسيمة للمادة (147) من الاتفاقية، كما أن حرمانها من الرعاية الطبية والتغذية بعد الإصابة يُعد حرمانًا متعمدًا من الضروريات الأساسية للحياة وهو فعل مجرَّم بموجب القانون الدولي.

بمطلبٍ وحيد تختم شيرين حديثها: “أريد فقط الخروج من غزة، أن أركّب أطرافًا صناعية أتمكن بها من المشي مجددًا، لا أريد أن أبقى رهينة حجر ضغط على أذني اليمنى فلم أعد أسمع بها… أريد أن أعيش، فقط أن أعيش”.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى