ولاء وكريم.. قصة أم وطفلها تحديا أهوال الحرب

حين غاب الأب استفاقت الأوجاع وبدأت رحلة الكفاح من أجل البقاء

الزوايدة – هديل الغرباوي: بعد أن أدار زوجها ظهره وغادر البيت سعيًا للحصولِ على سلّة غذائية، انقبض صدرُها، فوقفت على الباب بانتظار زوجها الذي اندسّ بين الزحام واختفى عن الأنظار، وبعد فترة قصيرة علمت من الجيران أنه أصيب أثناء استلامه السلة الغذائية، فركضت صوب المدرسة التي أصيب فيها!

حدث هذا يوم 4 ديسمبر/كانون الأول 2022م، في منطقة السكّة شمال مخيم جباليا شمال قطاع غزة، كان جسدها ينتفض بقوةٍ على وقع الأحزمة النارية التي تضرب بيوت المدنيين الآمنين، ويتعالى الصراخ والناس تركض في الأزقّة بحثًا عن مكانٍ آمن يقيها ضربات الفانتوم والكواد كابتر، التي لم تهدأ منذ اليوم الأول للحرب الإسرائيلية على قطاع غزة في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023م.

في أحد الأزقة الضيقة وجدت عربة كارو يجرها حمار تقلّ جثة شهيدٍ مخضبة بالدماء، مغطّاة بشادر بلاستيكي، ثمّة شعورٍ مبهم دفعها لرفع الغطاء عن وجه الشهيد لتجده زوجها جهاد بعلوشة الذي ارتقى أثناء محاولته الحصول على سلّة غذائية لعائلته.

كانت تلك لحظاتٌ فاصلة في حياة الشابة ولاء بعلوشة (34 عامًا)، وهي أم لثلاثة أطفال أكبرهم كريم (14 عامًا) ثم غزل (12 عامًا) وأصغرهم غنى (7 سنوات)، تقطن حاليًا خيمة صغيرةٍ من الخشب والبلاستيك، في مخيم المصدّر بمنطقة الزوايدة وسط قطاع غزة، بعدما نزحت إلى هناك يوم (21) مارس/اذار 2024، في اليوم الثاني لشهر رمضان.

من داخل خيمتها، وهي تتوسط أبناءها الثلاثة تروي ولاء حكايتها: “كنا قبل الحرب عايشين حياة عادية، دام زواجي 18 عامًا، كنا نتقاسم منزل العائلة مع أهل زوجي وشقيقه، ظروفنا الاقتصادية صعبة، بيتي عبارة عن غرفة صغيرة كنا نطمح للخروج والانتقال إلى شقّة صغيرة، نعيش فيها بمفردنا، لكن الحلم البسيط تحقق بعد وفاة والد زوجي ووالدته”.

قرر الأشقاء بيع بيت العائلة وتوزيع الميراث، كان نصيب زوج ولاء 13 ألف دولار، اشترى شقة صغيرة قبل حرب 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023م بعامين فقط، كان زوج ولاء أحد مصابي مسيرات العودة، لم يكن بمقدوره العمل فإصابته كانت في عصب اليد، وكان ينفق على عائلته من مبلغ 700 شيكل يتحصّل عليها مساعدة نقدية كجريح.

تقول ولاء: “عندما استشهد زوجي أصبحنا بلا معيل ولا سند يدبّر شؤون حياتنا، فقدت التواصل مع عائلة زوجي لبُعد المسافات والظروف القاهرة التي يعانيها الجميع في قطاع غزة بسبب النزوح المستمر، فكل شخص منا “فيه اللي مكفيّه” عائلة زوجي نزحت منذ بداية الحرب إلى مركز إيواء في دير البلح، وأهلي نزحوا إلى محافظةٍ أخرى، وبقي أبي في غزة”.

ولاء: من لما استشهد زوجي وأنا عايشة على المعونات ومن أيدين فاعلين الخير، غير التنقل المستمر من مدرسة لمدرسة واحنا تحت الخطر

تستكمل حديثها: “تخيلوا معاناة شابة في مقتبل العمر وحيدة دون سند في مجتمع ذكوري، الأمر صعب في الأيام الطبيعية فما بالكم الآن، صحيح أن الكل يعاني، لكن معاناتي أكبر لدرجة أصبحت أتمنى الموت في كل لحظة”.

تمسح دموعها وتواصل: “من لما استشهد زوجي وأنا عايشة على المعونات ومن أيدين فاعلين الخير، غير التنقل المستمر من مدرسة لمدرسة واحنا تحت الخطر”.

بعد استشهاد زوجها، شعرت ولاء أن طفلها كريم (14 عامًا) كبر فجأة، وأنه أصبح لديه من النضج ما يكفي لتحمّل المسؤولية بعد فقدان والده، كان يتلمّس الطريق ولا يعرف أين البداية، حتى يمدّ لحاف الستر لعائلته.

تكمل: “بعد استشهاد زوجي ابني كريم صار سند العيلة، لما المجاعة ضربت شمال قطاع غزة وصراخ طفلتي غنى ما بوقف بسبب الجوع، ابني كريم قرر يخوض تجربته الأولى لتوفير كيس طحين، كان ابني كريم يطلع من الصبح على دوار النابلسي يلاحق طيارات المساعدات على أمل يحصل على وجبة أو كيس طحين، وفي كل مرة يرجع دون نتيجة”.

قبل شهر رمضان بيومين، استيقظ كريم وأخبر والدته نيته الذهاب إلى دوار الكويتي للحصول على كيس طحين من شاحنات المساعدات، أدار ظهره وأطبق الباب وخرج، وظلّت أمه ترقب عودته طيلة اليوم والخوف ينهش قلبها، حتى جاءها اتصال من شقيق زوجها النازح إلى دير البلح يخبرها إن سلطات الاحتلال احتجزت كريم وأجبروه على النزوح إلى الجنوب وحده.

لم تحتمل ولاء (أم كريم) البعد عن طفلها، خاصة وأنها أصبحت تعتمد بشكلٍ كامل على هذا الطفل الذي تم إبعاده قسرًا إلى الجنوب، فهو كان ينوب عنها في كل شيء، من تعبئة المياه وإشعال الحطب وجلب الطعام من التكيات، والوقوف في طوابير استلام الطرود الغذائية، فنزحت إلى الجنوب خلفه، ومرّت كما غيرها على جثث الضحايا الموزّعة على طريق النزوح.

ويخالف ما تعرّضت له عائلة ولاء بنود اتفاقية جنيف الرابعة الخاصة بحماية المدنيين وقت الحرب، والتي ترفض التهجير القسري لهم، كما نص قرار مجلس الأمن (1325) في المادة (10) على دعوة أطراف النزاع لاتخاذ تدابير خاصة لحماية النساء والفتيات.

أشعةُ الشمس الحارقة، أكسبت وجه الصغير كريم بطبقةٍ برونزية، وبدا غارقٌ في قيعان أفكاره، كان كلامه مقتضبًا، لكنه أكبر من سنّه الصغير لكبر المسؤوليات الملقاة على عاتقه.

كريم: بعد ما نصبت الخيمة لأمي وإخوتي، ناشدت عشان ألاقي شغل يوفر مصروفنا

أخفى كريم دموعه وهو يقول: “بعد ما نصبت الخيمة لأمي وإخوتي، ناشدت عشان ألاقي شغل يوفر مصروفنا، توجّهت إلى إدارة المخيم ومخاتير المنطقة ولجان المساعدات والمؤسسات الخيرية، لكن لا أحد يقدّم لنا شيئًا، كلهم يطلبون الأسماء وأرقام الهويات دون فائدة”.

يكمل: “لقيت شب داخل المخيم بيحفر دورات مياه وبيبني خيام عطف عليا وأخدني معه مقابل خمسين شيكل أسبوعيًا، بالأول لقيت إن المبلغ منيح وفرحت، لكن مع مرور الوقت وغلاء الأسعار لقيت إنه ما بيكفي مصروف يوم واحد”.

قطع حديث كريم بكاء غنى المتواصل، تريد الحصول على شيكل لشراء البسكويت مع رفيقاتها، بينما تحاول والدتها إسكاتها دون فائدة.

“في غزة، قبل نزوحنا إلى هنا كنت أعمل في بيع كرات الشوكولاتة، وكاسات الأيسكريم، أخرج من البيت الساعة 8 صباحًا وأعود في المساء بمبلغ أربعة شواكل فقط، الفقر والوحدة خلوني أرتمي في حضن العمل وأنا في هدا العمر عشان لقمة العيش”.

كان كريم يحلم بأن يكون مهندسًا عندما يكبر، وليس حفارًا لدورات المياه، هنا يجهش بالبكاء ويكمل: “أصبحت أنزل إلى السوق مؤخرًا وأقوم ببيع كاسات المثلّجات، وعندما يحدث قصف أترك ما بيدي وأركض إلى خيمة أمي لأطمئن عليها، فأنا المسؤول الأول عن الأسرة، أعرف أن المبلغ الذي آخذه من حفر المراحيض قليل، لا يكفي يوم أو يومين، ولكننا نعيش على طعام التكيات بشكل يومي، وأقف بانتظار دوري حتى حفظني معدّ الطعام وأصبح يزيد لي الكمية، أما العلاج فإننا نذهب إلى النقاط الطبية التابعة للمخيم وباقي الأيام رزقنا على الله، كفالات الأيتام تخرج لنا كل فترة 200 شيكل أو طرد غذائي”.

مع مغيب الشمس، انخفضت ضجة المخيم تدريجيًا، فيما كانت فوانيس الإنارة التي يطلقها الاحتلال ترتفع، بينما اندسّ كريم بين الخيام في محاولةٍ منه لإهدار الوقت القاسي، بعدما نجح في تأمين عشاء هذا اليوم.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى