بين الرماد والخبز

هند تواجه أهوال الفقد والحرب لتنجو بأطفالها

دير البلح – هبة أبو عقلين “بشتغل عشان أعيش أنا وأولادي بعد استشهاد زوجي”. هذه الجملة نطقتها هند أبو وردة (36 عامًا)، وهي تمسحُ وجهها الغارقُ بخليطٍ من العرق والدموع أثناء حديثها عن العبء المتزايد عليها، وهي ترتّب الأواني في خيمتها الصغيرة، بعد انتهائها من عملها الشاق في إنضاج الخبز.

هند المكنّاة أم أحمد، هي أمٌ لستة أبناء، استشهد زوجها رامي الشندغلي (40 عامًا)، وطفلها أحمد (10 أعوام)، يوم 13 أكتوبر/تشرين الأول 2023م، نتيجة الأحزمة النارية المتتالية على منطقة جباليا النزلة شمال قطاع غزة، وبقي معها خمسة أطفال، نجلاء (16 عامًا)، نرمين (15 عامًا)، نعمة (14 عامًا)، ريماس (12 عامًا) والرضيع سند.

تستذكر أم أحمد حياتها قبل الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة التي اندلعت يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023م، فقد كانت تعيش في بيتٍ دافىء عامرٌ بالحب في منطقة جباليا النزلة شمال مدينة غزة، زوجها رامي يعمل في الداخل المحتل، يعود للبيت بين فترة وأخرى، تقول: “ترجيت رامي ييجي لأنه أولاده اشتاقوله وإجا قبل الحرب بأسبوع”.

في أول جمعة من الحرب، يوم 13 أكتوبر/تشرين الأول الساعة الخامسة عصرًا، ذهب رامي لشراء دواء لطفله سند، حرارته كانت مرتفعة، تكمل :”دون أن يخبرني أخذ معه أحمد الذي كان مختبئًا خلف الباب للخروج مع والده، فجأة سمعنا صوت أحزمة نارية وانفجارات تحيط بنا في كل مكان، حاولتُ الاتصال برامي لكنه لا يستجيب”.

خلال القصف تم استهداف بنايتهم السكنية المكوّنة من (5) طوابق، استشهد (6) من أفراد العائلة بينهم شقيق زوجها وزوجته، وخرج البقية من بين البيوت المقصوفة للنجاة بأرواحهم، هند حملت رضيعها (سند) وبناتها وفرّت إلى بيت أخيها، تاركة زوجها وطفلها أحمد لا تعرف عنهم شيئًا.

تنخرط هند بالبكاء بينما تتدخل في الحوار أم يوسف زوجة شقيقها وتكمل: “في البداية لم نخبرها باستشهادهم، كنّا بنحاول نسكّتها ونكذب عليها بأن جوزك وابنك مصابين، ولكن هي كانت في حالة صرع غير عادية، حاولنا إخماد القلق بداخلها، لكن قلبها كان يشعر بفقدانهم، قال لها أحد الجيران أن رامي وأحمد أشلاء في المستشفى الأندونيسي”.

لم يكن الحزن على رامي وأحمد وحدهما المسيطران على هند؛ بل خوفها على طفلها سند الذي كان في الشهرِ الثالثِ من عمره يعاني ارتفاع حرارته في ظل عدم توفّر الحليب والغذاء المناسب له والتطعيمات، والقصف المتكرر، ورعبها من فقدان أي شخصٍ آخر من العائلة.

تكمل أم يوسف مستذكرةً حياتها قبل الحرب: “كنا عايشين في بيت حلو، زوجي بيشتعل بشكل يومي، فجأة تغيّر كل إشي، صباح 7 أكتوبر/تشرين الأول صحينا لقينا الدنيا قايمة قاعدة، كنا نعتقد أن الحرب أسبوع أسبوعين وتنتهي، لكن استمرت أكثر مما نتوقع، بعد قصف منزل أم أحمد لجأت لمنزلنا، عشنا سوا من بداية الحرب حتى 30 نوفمبر/تشرين الثاني 2023م”.

ألقى الاحتلالُ منشوراتٍ تطالب سكّان شمال قطاع غزة بالإخلاء إلى جنوبه، وبسبب الخوف على الصغار قررت أم يوسف النزوح، تقول: “أولادي كانوا كل ما يسمعوا صوت قصف يصرخوا، فقررت النزوح للجنوب، ظننا أن الجنوب أكثر أمنًا، لكن القصف في كل مكان، حتى أثناء الطريق إلى مدخل مدينة غزة للنزوح، تم قصف عدّة أماكن في الطريق”.

أم أحمد: قررت انزح مع عيلة أخويا لأن خايفة على باقي اولادي

نزحت أم أحمد مع شقيقها وزوجته وأطفالهم إلى الجنوب يوم 30 نوفمبر/تشرين الثاني 2023م، بحثًا عن الأمان لأبنائهم بعد اشتداد القصف على منطقة جباليا النزلة، مضيفة: “خرجنا تحت نيران آليات الاحتلال الإسرائيلي، في منطقة نتساريم جنوب غزة الوضع كان خطير جدًا، جثث الشهداء ملقاة على الأرض، والصراخ والإصابات، والمشي المتعب، وبين يدي سند الذي يصرخ طول الطريق”.

تكمل: “قررت أنزح مع عيلة أخويا لأن خايفة على باقي أولادي، نزحنا إلى كلية فلسطين التقنية، بمدينة دير البلح مع ثماني عائلات في نفس الغرفة، “ثلاث أيام وأنا بسمع صوت قصف ونصرخ أنا وبناتي وهو فش قصف، لم نكن نعرف معنى كلمة نزوح، فلم نأخذ معنا شيء من أغراضنا، بقينا أربعة أيام ونحن لا نأكل، حيث لا خصوصية ولا راحة ولا نوم، بعدها قررنا الانتقال إلى مكان آخر لإنشاء خيمة ودورة مياه خاصة بنا”.

أم يوسف: كان الشتاء في الخيمة قاسي جدًا ومية الشتا تدلف علينا

عودة إلى أم يوسف: “لم نأخذ معنا إلا قطعتين من الملابس لكل فرد، لم نملك أواني للطبخ، في كلية فلسطين التقنية لا مكان للراحة ولا النوم ولا حتى فراش، أربعة أيامٍ بلا أكل، لم نكن بحالةٍ جيدة، قررنا الانتقال إلى أرض فارغة، استطعنا إنشاء خيمة من الأقمشة، كان الشتاء في الخيمة قاسي جدًا ومية الشتا تدلف علينا”.

تعتدل في جلستها وهي تكمل: “الآن في فصل الصيف حرارة عالية وحشرات غريبة ولا يوجد مصدر دخل لتلبية احتياجاتنا، الحياة صعبة ويحاول زوجي أن يجمع الحطب طول اليوم لنعد الخبز على فرن الطينة، كما نقطع مسافات للحصول على المياه”، وتتمنى أم يوسف انتهاء الحرب لتشعر بالأمان وتعدّ الطعام الجيد لأبنائها.

أم أحمد: أختي أم صالح استشهدت في الشمال بسبب الجوع

تعيش أم أحمد في خيمةٍ شديدة الحرارة بجوار خيمة شقيقها، تقول: “أكثر من 12 فردًا أخي أبو يوسف يتحمل عبئهم، لكن الحال ضاق عليه وأصبح غير قادر على إعالة أسرتين، نفدت مدخراتنا البسيطة من أول أشهر الحرب، الحال أشبه بالمجاعة”.

تتابع: “لم يعد لدينا شيء نأكله، ريماس كانت تئن جوعًا في أحد الليالي ونامت جائعة، وفي الليل حلمت بزوجي يلومني وبوصيني على إطعام البنات، عائلة زوجي كلها بقيت في الشمال، ثلاثة إخوة لي يعانون من الجوع هناك، استشهدت أختي الكبيرة أم صالح يوم 10 أغسطس/آب 2024م، بسبب الجوع وسوء التغذية وعدم توفر الأدوية، في مدينة غزة، ولم تستطع السفر للعلاج، فقد كانت تعاني من السرطان والسكري، والحصار تسبب بإصابتها بفقر الدم”.

في أرضٍ قاحلة بمخيم أرض شاهين بمدينة دير البلح وسط قطاع غزة، تجلس أم أحمد أمام فرنٍ من الطين، يقوم شقيقها بتقطيع الخشب وهي بإنضاج الخبز وطهي الطعام للزبائن، ما تسبب لها بأمراض في الجهاز التنفسي والعيون.

تضيف أم أحمد التي بدت آثار الحروق واضحة على يديها: “أتغاضى عن آلامي وحزني وأوجاعي في سبيل إطعام أبنائي وتلبية احتياجات بناتي الصبايا، لازمهم احتياجات خاصة، منها معدومة ومنها غالية جدًا بسبب شحّ مواد النظافة في الأسواق، فوق كل هذا التعب لا يوجد مياه صالحة للشرب ولا غاز للطهي، بنستخدم الحطب فقط”.

كانت أم أحمد تعمل على إعداد بعض قطع الحلوى والمعجنات وإعطائها لطفلتيها نعمة وريماس لبيعها في المخيم، لكن هذا العمل لا يكفي لسد احتياجات الأسرة، خاصة وأن سند بحاجة للعلاج الدائم بسبب مشكلة في الجهاز التنفسي، وهو بحاجة لعلاج دائم يكلف 200 شيكل شهريًا (نحو 70دولارًا).

وخلّفت الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة حتى منتصف أكتوبر 2024م نحو 42 ألف شهيدةً وشهيدًا، معظمهم أطفالٌ ونساء، ونحو 10 آلاف مفقود تحت الأنقاض، ويتنافى استهداف المدنيين مع اتفاقية جنيف الرابعة التي ضمنت الحماية للمدنيين وقت الحرب، وتنص المادة (33) منها على حظر الاقتصاص من الأشخاص المحميين، كما نص قرار مجلس الأمن (1325) في المادة (10) على دعوة أطراف النزاع لاتخاذ تدابير خاصة لحماية النساء والفتيات.

يتنافى استهداف المدنيين بالقصف مع بنود اتفاقية جنيف الرابعة، بشأن حماية المدنيين وقت الحرب التي تنص في المادة رقم (٣٣) على حظر الاقتصاص من الاشخاص المحمين وممتلكاتهم.

أم أحمد: طفّت علينا المجاري ثلاث أيام ما قدرنا نمشي ع الأرض

تكمل أم أحمد: “طفّت علينا المجاري ثلاث أيام ما قدرنا نمشي ع الأرض، البعوض والفئران نراهم كل ليلة، نعاني انعدام النظافة والحشرات تنتشر في المخيم ومع ذلك أدوات النظافة التي تساعدنا على التخلص من الحشرات غير موجودة في الأسواق، طفلي سند أصابه فيروس لكنه شفي منه”.

تضيف: “نجلاء لديها فوبيا الحشرات، حين ترى (البرص) يصيبها تشنّج وإغماء، وتصبح بحاجة لإسعاف أولي كي تتنفس”، زادت معاناة العائلة بسبب الازدحام الشديد في المخيم والنقص الحاد في المياه ونفاد مستلزمات النظافة الشخصية.

تقول أم أحمد بينما تنهمر دموعها: “أبحثُ عن عملٍ آخر لا يدمّر صحتي، غير هذا العمل الشاقّ الذي سيصيبني بالعمى ومشاكل بالتنفس، أبنائي بحاجتي وخاصة سند الذي يحتاج رعاية صحية”.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى