بانتظار فرصة النجاة

معركة يوسف ضد الفشل الكلوي وسط جحيم الحرب

غزة- هبة الشريف: قبلَ الحربِ بأسبوعٍ واحد لا يُمحى من ذاكرة الطفل يوسف أبو بكر (9 سنوات) ووالديه، حيث حلّت بالطفل وعكة صحية شُخّص بناءً عليها بإصابته بفشل كلوي في الكليتين معًا، ورفيقهما ضغط الدم!

تسيرُ والدة يوسف (هدى أبو بكر 34 عامًا) مشيًا على الأقدام نحو 2 كيلو متر وهي تحمل يوسف حين تعجز عن إيجاد مواصلات تنقلها من مكان سكنها الحالي وسط مدينة غزة، إلى مستشفى الشفاء غرب المدينة، من أجل جلسات غسيل الكلى التي تقلّصت بسبب الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة في ظل شحّ الإمكانات وطوابير الانتظار داخل المستشفى.

تقول أم يوسف بصوتٍ متعب: “انهدّ حيلنا، بدناش أكل ولا شرب بس تخلص الحرب وفرصة سفر لزراعة الكلى ليوسف، شبه يومي أُفيّق يوسف من نومه في الخامسة صباحًا، أجهّزَه وأخرج به في السادسة مشيًا على الأقدام حتى منطقة الساحة أنتظر طوابير السيارات واستغلال السائقين لحالتنا وأضطر للقبول بأي سعرٍ لنقلنا إلى المستشفى”.

يوسف: كل اللي بدي إياه تخلص الحرب وأقدر أسافر وأعمل زراعة كلى وأعيش طبيعي

من داخل منزل جدّه في حي التفاح وسط مدينة غزة، يستجمع الطفل يوسف قواه وهو يحكي: “كل اللي بدي إياه تخلص الحرب وأقدر أسافر وأعمل زراعة كلى وأعيش طبيعي”.

يسند يوسف ظهره بصعوبة وهو يروي أنه يعاني بشدّة نتيجة إصابته بالفشل الكلوي، ويشعر بالتعب والإعياء والهزال أثناء جلسات الغسيل، مضيفًا: “كانت حياتي عادية كل اهتمامي بالمدرسة، لكن الحرب والمرض أتعبوني”، قالها وعاد إلى النوم بينما أكمل والده القصة: “اكتشفنا مرض يوسف يوم 29/9 قبل الحرب بأسبوع، عندما تعب بشكل مفاجئ، واصطحبته أمه إلى عيادة الوكالة القريبة، وتم تشخيصه بفقر الدم، وأتيحت لنا فرصة إجراء تحاليل طبية بمستشفى الشفاء وتم تشخيصه بارتفاع وظائف الكلى”.

تم تحويل يوسف إلى مستشفى الدرّة في دير البلح يوم 1 أكتوبر/ تشرين الأول 2023م، ومن ثم عاد إلى مستشفى الرنتيسي للأطفال بمدينة غزة، مكث فيها أسبوعًا ونظرًا لإصابته بالضغط العالي لم يتعاملوا مع حالته وخرج من المشفى، تدهور الوضع الصحي ليوسف، لكنه استجاب لاحقًا بعض العلاجات واستمر وضعه مستقرًا حتى مايو/أيار 2024م.

تمتلئ عينا أم يوسف بالدموع وهي تنظر لطفلها النائم وتقول: “أصعب لحظة لما عرفت بإصابته بفشل الكليتين، مجرد ما أشوفه بمشهد غسيل الكلى ما بسيطر على مشاعري، حاليًا ركّبوا لابني يوسف برابيش غسيل الكلى عن طريق القلب، شعور صعب لما بقعد قدامه ما بتحكّم في دموعي”.

يوم 24/5/2024، اصطحبت والدة يوسف طفلها إلى مستشفى المعمداني إثر إصابته بالتشنج، وتم تحويله إلى مستشفى كمال عدوان بعدما ساءت حالته وانقطعت أنفاسه، وتم السيطرة على حالته بعد إجراء صدمات كهربائية.

ومنذ اندلاع الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023م، وإجبار الاحتلال سكّان شمال القطاع على النزوح على جنوبه، تضاعفت معاناة مرضى الفشل الكلوي المقدّر عددهم نحو (1100) مريض، خاصة من بقوا في الشمال، وتقلّصت فرص الغسيل المخصصة لهم مع غياب العلاج وقلة الإمكانات، وانعدام فرص علاجهم خارج قطاع غزة مع إغلاق المعابر.

وتزداد معاناة مرضى الفشل الكلوي، بسبب تقليص عدد الجلسات المخصصة لهم ومدّتها أيضًا، والخشية من تعرّضهم للعدوى في ظل صعوبة التعقيم نتيجة نقص الإمكانات الطبية.

تردف: “يوسف بيدعي بكل وقت إن ربنا يشفيه ويرتاح من مشاوير غسيل الكلى وتعبها، بيصيبه دوخة ونعس طول ساعات الغسيل”، فالسيدة وهي أمٌ لأربعةِ أبناء لا يشغل تفكيرها أيٌ منهم مثلما يشغلها يوسف.

تكمل: “نزحت من بيتي يوم 31 أكتوبر/تشرين الأول 2023م، وانقصف يوم 2 نوفمبر/ تشرين الثاني 2023م، فقدت شقتي شقى عمري في برج الاتصالات بمنطقة تل الهوا وما زعلت عليها زي زعلي على يوسف، المال معوّض بس صحة ابني مين يرجعها”.

وبعد 10 شهور من الحرب، أرهقت الأوضاع الصعبة والغلاء الفاحش كاهل ذوي المرضى ومنهم عوني والد يوسف الذي يقول: “كل واحد فينا عاش تجارب نزوح متكررة سواء بالتنقل من منطقة لمنطقة لمجرد إيجاد فرصة الأمان والسلامة، قصف الاحتلال منزلي وحاليًا أعيش في بيت أهلي في حي التفاح وأنا مسؤول وحدي عن 16 فردًا بينهم أختي المريضة”.

ضمن أكبر مسببات تفاقم الوضع الصحي لمرضى الفشل الكلوي هو النظام الغذائي السيء وتناول البقوليات التي تؤدي إلى ارتفاع وظائف الكلى وتراكم السموم، يقول والد يوسف: “بشتري أدوية الكلى لابني يوسف بأضعاف سعرها، غير انقطاع الأغذية المناسبة لصحته واضطراري لاستبدالها بعلب التونة لسد نقص غياب أكله المحدد، والجميع يعلم الأسعار الخيالية في شمال غزة”.

وكما غيره من عمال المياومة، فقد والد يوسف مصدر دخله بعدما كان يعمل في متجرٍ لبيع الملابس والذي تعرّض للحرق في الحرب، يقول: “الآن أحاول قدر المستطاع توفير دخل يومي، يوسف بحاجة لمواصلات يومية تبلغ 70 شيكلًا ناهيك عن أدوية وغذاء وغيرها”.

لم يعد بمقدور عائلة يوسف دفع ثمن الغذاء المناسب له خاصة أن أسعاره تضاعفت إن وجدت، تقول والدته: “لا معيل للأسرة سوى زوجي ومصروفنا حاليًا تضاعف مقارنة بما كان عليه قبل 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023م، حتى المنزل الذي نتواجد فيه تعرّض لأضرار جزئية وفقدان شبابيكه وأبوابه بسبب القصف”.

تشير والدة يوسف إلى طفلة بين يديها وهي تكمل: “لدي ثلاثة أطفال أكبر من يوسف وهو رابعهم، كلهم يعانون نفسيًا بسبب الحرب، أصعب لحظة لما تركت طفلتي تالا اللي عمرها أربع سنوات مع بنتي اللي عمرها 14 سنة وطلعت مع يوسف في عزّ الحرب، الخوف كان مسيطر عليّا كل الوقت، الحرب ما بترحم واحتمال قصف أي مكان وارد دون سابق إنذار”.

لدى والد يوسف شقيقة مصابة بمرض الصرع وتخشى العائلة حدوث اجتياح مفاجئ يجعل الخروج بها من المكان صعبًا، لكن العائلة تحاول قدر الإمكان التعاون من أجل تأمين الاحتياجات الأساسية والوقوف في طوابير جلب المياه والخبز وغيرها.

لم تضطر عائلة يوسف للنزوح من منزلهم الحالي بشكل كامل، لكن الأمر لا يخلو من خروج لساعات خلال القصف ثم العودة، لكن والدته تصف وضعها: “عايشين في خوف ورعب بسبب القصف المتواصل، والاختباء من الطائرات، نحاول التعاون والتخفيف عن بعضنا خاصة حين أخرج بيوسف فترة الغسيل”.

ويشرح والد يوسف :”جسمه تنفّخ بسبب السموم والسوائل، تأجّلت جلسات غسيل الكلى وصار عنده انسداد في شرايين الكسترة المركّبة بالقلب، وعن طريقها بيغسل كلى، ابني لازمه عملية عاجلة وبسبب ضعف الإمكانيات تأجّلت لبعد الحرب”.

وتنص اتفاقية جنيف الرابعة الخاصة بحماية المدنيين وقت الحرب، على حماية خاصة للمرضى والأطفال، كما أكدت في المادة (89) من الاتفاقية ضرورة صرف أغذية للحوامل والأطفال دون سن 15 عامًا تتناسب مع احتياجاتهم، وهو ما لم يراعى في حالة يوسف.

كما تنص المادة (24) من اتفاقية حقوق الطفل على حق الطفل في التمتّع بأعلى مستوى صحة يمكن بلوغه، وان تبذل الدول جهودًا لضمان ذلك.

أكثر ما يقلق والدة يوسف ووالده هو استمرار الحرب وانعدام فرص العلاج خاصة شمال قطاع غزة، فقد بات يوسف يعاني الألم مضاعفًا بسبب تواصل جلسات غسيل الكلى التي أنهكت جسده، كما يعاني من قلة التغذية، وما زال يوسف نفسه يتمنى: “نفسي تنتهي الحرب وأتعالج وأبطّل غسيل كلى”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى