تحت نار الحرب.. حمل وولادة وفقدان
مريم تواجه قسوة الظروف وتضع مولودتها قبل أن تضع الحرب أوزارها
خانيونس – دعاء برهوم – “طفلتي التي ولدّتها أثناء الحرب حملت اسم جدّتها سهير التي قتلها صاروخ إسرائيلي خلال قصف منزلٍ ظنوه آمنًا في معسكر جباليا شمال قطاع غزة يوم 28 ديسمبر”.
بهذه الكلمات استهلت مريم الكحلوت (21 عامًا) حديثها عن تجربة الحمل والولادة خلال الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة التي شهدت استشهاد والدة زوجها واثنين من أشقائه!
تعيش مريم تجربة النزوح في خيمة من (النايلون) لا تصلح للعيش في منطقة مواصي خانيونس جنوب قطاع غزة، بوجهٍ شاحبٍ وجسد هزيل تختصر مريم “حملٌ وولادة في النزوح والحرب، وجعٌ فوق كل الوجع”، تقول مريم ثم تبكي.
تشرح: “عرفت بحملي قبل الحرب بشهرٍ واحد، يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023م، كنت على موعدٍ مع طبيب الولادة، لكن الظروف تغيّرت لأن الحرب اندلعت صباح ذلك اليوم، برمشة عين انقلبت الدنيا وبدل ما أروح الدكتور قعدت أتابع الأخبار عشان أعرف شو رح يصير”.
مريم: أول مرة أعيش بهاد الظروف الصعبة والمجاعة بدت تنتشر في الشمال
يوم 10 أكتوبر/تشرين الأول 2023م، ثالث أيامِ الحرب جهّزت مريم ملابسَ كانت قد اشترتها بمبلغ 100 دولار حصلت عليها كمساعدةٍ من المنحة القطرية، ونزحت إلى مدرسة تابعة لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينين (أنروا) لحماية أطفالها من الصواريخ.
بعد 45 يومًا في المدرسة خاضت فيها مريم معاناة تصفها: (أول مرة أعيش بهاد الظروف الصعبة والمجاعة بدت تنتشر في الشمال فقررنا النزوح إلى الجنوب)، كان المستشفى الأندونيسي شمال القطاع تعرّض لحصارٍ وقصفٍ مدفعي مباشر، فخشيت على حملها وطفلها يوسف.
مريم: كملنا مشي على رجلينا ساعتين
تكمل بحسرة: “صباح يوم الثلاثاء 28 نوفمبر/تشرين الثاني 2023م، ركبنا عربة يجرها حمار ومعنا أمتعتنا وفي منتصف الطريق “كملنا مشي على رجلينا ساعتين” حتى وصلنا حاجز نيتساريم العسكري، رأينا عجب العُجاب من جرائم وقتل وتشريد خلال نزوحنا، واعتقال زوجي “خلوه عندهم خمس ساعات”، عبرت الحاجز بطفلي يوسف الذي أكمل عامه الثاني في الحرب وصلنا إلى حي تل السلطان غرب رفح، ولم نكن نعرف أحدًا هناك”.
تُكمل والدموع تُغرق عيناها: “جلسنا داخل غرفة صفّية بمدرسة حكومية مع ثماني عائلات، لا حدود للمعاناة “حتى الفرشة ممنوع نتخطّاها” لكل عائلة فرشة واحدة فقط، شهرٌ واحد في المدرسة حُرمت خلاله طعم النوم، لا خصوصية بسبب تواجدنا مع عدّة عائلات”.
مريم: نهارنا بروح واحنا بنجري ورا عربيات المية والتكية دور تاني
أُجبرت مريم وعائلتها على التخلّي عن الكثير من الأشياء المعتادة منذ النزوح، مع كلِ صباحٍ يبدأ صراعها مع الحياة، إشعال النار لطهي الطعام وإعداد الخبز على أفران الطين التي أثّرت سلبًا على صحتها، وأصابتها بضيقِ التنفس وهي حامل في شهورها الأولى، تكمل: “إضافة لعدم قدرتي على استخدام دورة المياه بسبب الطوابير الممتدة، (نهارنا بروح واحنا بنجري ورا عربيات المية والتكية دور تاني).
بحسرةٍ تكمل: “في حملي الأول كان للحياة طعم ولون ولم أحُرم من شيء، الآن الحياة سوداء وطعهما مرّ، ضاقت الدنيا علينا منذ تركنا بيتنا في معسكر جباليا شمال قطاع غزة، وما تزال الغربة تأكل أرواحنا، الوضع مأساوي في ظل عدم توفّر المياه والرعاية الصحية، وندرة المواد الغذائية، (توحّمت في حملي على فاكهة القشطة وما لقيتها)، كنت بحاجة للغذاء والدواء من أجل الحمل ولم أجده بسبب الحرب”.
تتكئ مريم على سريرِ طفلتها سهير الذي صنعه لها والدها يحيى من خشب “المشاطيح”، وهي تقول: “يوم 7 مايو/أيار 2024م دخلت شهري التاسع واقترب موعد ولادتي، نزحت مرة ثالثة وأتمنى أن تكون الأخيرة لأني مشتاقة لكل شيء في الشمال، انتقلنا إلى مواصي خانيونس بعد اجتياح رفح، عانيت كثيرًا وأصابتني آلام الظهر وأنا أساعد زوجي في نقل الأمتعة ونصب الخيمة الجديدة”.
مريم: أجاني وجع الولادة بالليل واضطرينا نستنى للصبح عشان أروح المستشفى
يوم 30 يونيو/حزيران 2024م، وأثناء جلسة عائلية مسائية على باب الخيمة، أصابت مريم آلام المخاض، تعقّب: (أجاني وجع الولادة بالليل واضطرينا نستنى للصبح عشان أروح مستشفى ناصر، الوضع بخوّف في الليل وما حد بقدر يتحرك بسبب طيارات الكوادر كابتر).
مريم: بين دخولي الكشك وخروجي منه دقايق، ممنوع ترتاحي بتولدي وبتروحي
تمسح دموعًا تسللت عبر مقلتيها وهي تسرد تفاصيل ولادتها التي رافقتها فيها أمها، المكان مزدحم بالنساء الحوامل ولا يوجد متسّع أو أسرّة لاستيعابهن، “أعطوني طلق صناعي عشان يسهّل الولادة، بين دخولي الكشك وخروجي منه دقايق، ممنوع ترتاحي بتولدي وبتروحي، فش متابعة ولا أطباء أطفال يشوفوا المواليد، في ميلاد طفلي يوسف مكثت في المستشفى ساعات للاطمئنان، الولادة في الحرب صعبة وعذاب، لا يوجد مسكّنات لوقف الألم، الحمامات غير مؤهلة صحيًا، الجرح لا يلتئم بسرعة، نحتاج إلى معقمات وأدوية لتطهير مكان الغرز وهي غير موجودة بسبب شح الأدوية”.
حملت مريم طفلتها بين ذراعيها إلى الخيمة التي تفتقر لأدنى مقومات العناية بالطفل، وظلّت الطفلة شهرًا لا تستحم سوى بالمياه، فالمنتجات الخاصة بالأطفال باهظة الثمن، علبة الشامبو 100 شيكل، والبامبرز والحليب بالكاد يتم توفيرهم.
تتنهّد وهي تمسح دموعها: “والدي بالشمال أرسل لنا ملابس للطفلة، وأرسلهم مع عائلة نزحت عندما كنت في الشهر السابع من الحمل، أشتاق له جدًا، الحياة هنا صعبة (بتهدّ الحيل)”.
ويتنافى ما تعرّضت له مريم وعائلتها مع اتفاقية جنيف الرابعة الخاصة بحماية المدنيين وقت الحرب، والتي نصت في المادة (17) على واجب الأطراف في العمل على نقل النساء النفاس من مناطق النزاع إلى مناطق آمنة وحمايتها، كما نصت المادة (23) من الاتفاقية ذاتها على كفالة وصول الأدوية والأغذية الضرورية والملابس للنساء الحوامل والنفاس، كما يضمن القانون الدولي حماية مزدوجة للنساء نظرًا لاحتياجاتهن المرتبطة بالإنجاب، كما نص قرار مجلس الأمن رقم (1325) بشأن المرأة والسلام على ضرورة اتخاذ تدابير خاصة لحماية النساء والفتيات وقت النزاع المسلح.
كانت مريم تعيش حياة مستقرة هادئة، فهي وأختها “سلفات” (متزوجات من شقيقين)، لكنها تعيش حالة من القلق على والدها وإخوتها الذين بقوا في الشمال، بينما نزحت أمها وأحد أشقائها إلى دير البلح، وهم يزوروها بشكل مستمر.
تمسح مريم دموعها وهي تتابع: “حماتي (والدة الزوج) كانت أمي الثانية، استشهدت في الحرب في قصف منزل نزحوا إليه، كانت معي يوم ميلادي الأول، وكانت حريصة على صحتي في حملي الثاني، تطمئن عليّ باستمرار، تامر وصلاح إخوة زوجي أيضًا استشهدوا معها، كانوا مثل إخوتي، يلعبون مع طفلي يوسف، ويشتروا له ألعابًا وحاجيات، استشهادهم صدمة لي ما زلت أبكي عليهم”.
يحيى: أمي قالت لي في آخر اتصال بيننا أنا بستنى تروحوا عشان أعملّكم حفلة استقبال كبيرة
كان زوج مريم يحيى أبو ركبة (26 عامًا) يجلس إلى جوارها، يمسح عينا طفلته “سهير” وهو يقول: “هي حملت اسم أمي الشهيدة، استشهدت هي ومعها أخي تامر (18 عامًا) ولحق بهم أخي الأصغر صلاح (15 عامًا) يوم 26 يناير/كانون الثاني 2024، أثناء مروره إلى بتينا، أطلقت طائرة كوارد كابتر النار عليه واستشهد وأنا بعيدٌ عنهم، هاتفت أمي قبل استشهادها بيوم، أمي قالت لي في آخر اتصال بيننا أنا بستنى تروحوا عشان أعملّكم حفلة استقبال كبيرة، ندبة ووجع في القلب تركته أمي، أبكي عليها يوميًا”.
يتحسّر يحيى على فِراق عائلته، ويبكي ألمًا أنه لم يطبع ولو قبلة وداع على جبين أُمِه وأخويه، الحرب فرّقتهم، خمسة نزحوا إلى الجنوب، وثمانية بقوا في الشمال.
يأخذ يوسف نفسًا عميقًا ويتنهّد وهو يكمل: “خلال النزوح إلى رفح احتجزني الاحتلال عدّة ساعات، شاهدت خلالها الجنود يطلقون النار بين النازحين لنشر الرعب، كان صراخ الناس يعلو مع سماع إطلاق النار ووقوع إصابات”.
يكمل: “عندما عرفت بحملِ زوجتي كدت أطير فرحًا، ما كنت عارف إن المولود رح ييجي بهيك ظروف، أُجبرنا على التعايش مع واقع ليس لنا، جهزت لطفلتي سريرًا من خشب المشاطيح (خشب صناديق البضائع)، خايف عليها من الرمل والحشرات، وحاولت تجهيز ما أستطيع لزوجتي”.
كان يحيى يعمل بائع مشروبات في حفلات الأفراح، يلبي احتياجات بيته، طحنته الحرب كباقي الشباب، فكّر بصنع بسطة صغيرة لبيع مستلزمات بيتية ليوفّر ولو شيء من متطلبات أسرته في ظل ارتفاع الأسعار، فعند ولادة زوجته لم يتمكن من شراء لحوم واكتفى بطعام التكيات والمعلبات.