نجوا وحدهما من مجزرة (فاطمة) أختُ (محمد) وأمهِ وأبيه أيضًا
دير البلح – دعاء برهوم:
“عندما حلّ مساء يوم 11 نوفمبر 2023، تفرّقت عائلتي بين شهيدٍ ومصاب ومفقود تحت الركام، فقدت أسرتي بالكامل، أبي وأمي وإخوتي الأربعة، وأصبحت وحدي مسؤولة عن شقيقي محمد الذي أصيب بالشلل”.
بهذه الكلمات تحدثت الطفلة فاطمة أبو معوّض (15 عامًا)، وهي تروي كيف فقدت أفراد عائلتها خلال قصف الاحتلال الإسرائيلي لبيتهم في منطقة جباليا شمال قطاع غزة، عندما شنّت طائراته الحربية حزامًا ناريًا دمّر العديد من المنازل.
تدفع الطفلة الكرسي المتحرّك بشقيقها محمد وهي تدخل خيمة من القماش، يقيمون فيها في أحد مخيمات النزوح بمدينة دير البلح وسط قطاع غزة، وتروي: “كانت لنا حياة، كنا أنا وعائلتي 8 أفراد نعيش في بيت دافئ، ذكرياتنا جميلة، حُرمت منها باستشهاد أبي وأمي وإخوتي أحمد ومحمود وزينة ومريم، نجوت أنا وأخي محمد فقط”.
تُكمل: ” أبي كان سندنا في الحياة، يُلبي كل احتياجاتنا، لم نكن نحتاج أحدًا، ولم أشعر بالعجز طيلة حياتي، الحرب جعلتني مسؤولة بالكامل عن أخي مُحمد (18 عامًا) الذي أصيب بشلل نصفي جعلته طريح الفراش، نتيجة قصف منزلنا، وتأمين احتياجاته أصبحت من أولوياتي اليومية وكذلك تضميد جراحه”.
رحلةٌ الحياة الجديدة شاقّة ومتعبة كما وصفتها فاطمة، استغرقت منها كل طاقتها، منذ أن أخرجها رجال الدفاع المدني من تحت ركام منزلهم المدمّر، بدأت تبحثُ عن عائلتها بين أسرّة المستشفى، فلم تجد سوى مُحمد في غرفة العناية المكثفة.
تتنهد بحزن وهي تكمل: “شعرت بالعجز وأنا أركض بين غرف مستشفى كمال عدوان حتى تعافى محمد، وخرج منها رغم أنه مازال بحاجة للعلاج بالخارج، فاضطررت للنزوح قسرًا إلى الجنوب مثلما طالب جيش الاحتلال الإسرائيلي في محاولة للنجاة بحياتنا”.
ويتناقض إجبار المدنيين على النزوح مع اتفاقية جنيف الرابعة الخاصة بحماية المدنيين وقت الحرب، التي حظرت استهداف المدنيين وحظرت التهجير القسري لهم.
أثناء النزوح، لم تستطع فاطمة الوقوف على قدميها من شدّة التعب، وهي تدفع وحدها الكرسي المتحرك لأكثر من ثلاث ساعات تحت البرد والمطر، وصولًا إلى حاجز نتساريم جنوب مدينة غزة، تحيط بها الروائح المنبعثة من جثث الشهداء المتحللة، وقنابل الصوت والغاز، ومرّت على جنود مدججين بالسلاح يطلقون النار بين أقدام النازحين، بينما اعتقلوا آخرين.
اصطحبت فاطمة شقيقها مُحمد مستعينةً بكرسيه المتحرك هربًا من الموت إلى مدينة النصيرات وسط قطاع غزة، لتبدأ رحلة العذاب والمعاناة من جديد، توضح: “نركض كأننا في آخر الزمان، تعرّفت على أحد النازحين الذي آواني في خيمة مهترئة لا تقي حرارة الصيف ولا برد الشتاء، وحمام مشترك نقضي به حاجتنا بصعوبة”.
تتابع فاطمة: “خرجنا من الموت لا نملك سوى ملابسنا التي نرتديها، منذ ثمانيةَ أشهر وأنا أصطف بطوابير طويلة للحصول على أدني مقومات الحياة “المياه، والطعام من التكيّات التي يوفرها المتبرعون لإطعام النازحين، رحلةُ البحث عن النجاة وعِرة ومؤلمة، كل شيء أصبح سراب بعد فقدان العائلة”.
تتنهد بحزن وتكمل: “قبل الحرب كانت أيامي جميلة، كل تفكيري في كتبي ومدرستي وكيف سأحصل على أعلى الدرجات، اليوم أقضي النهار موصولًا بالليل في البحث عن متطلبات الحياة المعدومة، وأقوم بدور الأب والأم لمحمد”.
انهمرت دموع فاطمة وهي تستذكر تفاصيل حياتها مع عائلتها وصديقاتها قبل الحرب على قطاع غزة، فهذه الحرب مختلفةً هي إبادة للبشر والحجر والإنسان، لم يبقَ منها سوى الذكريات التي تؤلم الروح.
هاجس الخوف يسيطر علىّ مع اشتداد حلكة الليل، واستمرار القصف في كل مكان وارتفاع صوت أزيز الطائرات، أخشى على محمد من الضياع أو فقدانه كما حصل مع عائلتي، فكلما سمعتُ صوت انفجارات قوية أحضنه بشدة خشية أن يصيبه مكروه.
ويتناقض ما تتعرض له فاطمة وشقيقها مع اتفاقية جنيف الرابعة، والتي تؤكد في مادتها (24) ضرورة حماية الأطفال الذين تيتموا وافترقوا عن عائلاتهم، ومنها تسهيل إيوائهم وإعالتهم وتعليمهم.
حالةٌ نفسية سيئة تعيشُها فاطمة نتيجة فقدان عائلتها وتحمّلها وحدها مسؤولية أكبر من عمرها، فعلامات الإرهاق مرسومة على وجهها، وأناملها ترتجف من شدة التعب وحمل أعباء الحياة على ظهرها، فلا شيء يعزّي قلب طفلةٍ مكلومة بفقدان عائلتها وطريقها مليء بالأشواك سوى أملها بانتهاء الحرب وعلاج شقيقها.