دمروا منزل (ولاء) ونبشوا قبور إخوتها!
رفح -هبة الشريف:
“لم يكتفِ الاحتلال بتدمير منزلنا الذي لم نسكنه سوى ثلاثة أشهر؛ بل حرق قلوبنا بتجريف قبور إخوتي الثلاثة”.
بهذه الكلمات بدأت الصحفية ولاء أبو جامع (28 عامًا) حديثها الذي روت فيه معاناتها مع الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، والتي اندلعت يوم 7 أكتوبر 2023، وأجبر الاحتلال خلالها أكثر من مليون مواطنٍ على النزوح من المناطق التي يسكنوها والعيش في خيام، في تناقض مع اتفاقية جنيف الرابعة الخاصة بحماية المدنيين وقت الحرب، والتي حظرت التهجير القسري للمدنيين.
تسكن الصحفية ولاء أبو جامع منطقة بني سهيلا الواقعة شرق مدينة خانيونس جنوب قطاع غزة، والتي تبعد ثلاثةَ كيلو متراتٍ فقط عن الحدود، فتعرّض بيت عائلتها للقصف في اليوم الثالث للحرب، ما دفعهم للنزوح منذ البداية.
تجلس ولاء مع عائلتها في خيمةٍ من القماش على أنقاض منزلها المدمّر، إلى جانب 10 من أفراد عائلتها، تقلّب في هاتفها النقّال ذكريات منزلها الذي كانت تحظى فيه بغرفةٍ مستقلة، وصور ثلاثٌ من أشقائها الذين أنهكهم المرض وماتوا تباعًا، وبقيت قبورهم في مقبرة قرب البيت، تسقي ترابهم بالمياه.
تقول ولاء: “الحرب طاحنة وموحِشة، لكن لم تنل من صمودِنا إلا عندما رجعنا لتفقّد مقابر إخوتي ولم نجدها، أصبحت رمادًا بعدما جرفها الاحتلال بوحشية، وتناثر رفات إخوتي الثلاثة واختفى بعضها، غصة في قلبي، بكاء أمي لم يهدأ”.
وتتعارض ما تعرضت له عائلة ولاء مع البروتوكول الإضافي الأول لاتفاقية جنيف الرابعة الخاص بحماية المدنيين وقت الحرب، والذي يحظر انتهاك حرمة الموتى.
يوم 9 أكتوبر 2023، قضت ولاء وعائلتها أول ليلة من القصف بالأحزمة النارية، خرجوا جميعًا يملأ قلوبهم الجزع لا يحملون شيئًا سوى أرواحهم التي حاولوا النجاة بها من هذا الجحيم، ومعهم شقيقتها فاطمة (13 عامًا) والتي كانت مصابة بمرض السرطان قبل أن تتوفى لاحقًا، لجأوا إلى خيمة من القماش في منطقة مواصي خانيونس غرب المدينة، وعادوا مع الانسحاب الإسرائيلي من المنطقة.
تتنهد ولاء وهي تقول: “الحرب سبب وفاة فاطمة، تقرر موعد سفرها قبل الحرب يوم 9 أكتوبر، تعمّد الاحتلال عرقلة التحويلات الطبية لمرضى غزة، توقّفتُ عن التغطية وابتعدت عن الميدان لأتفادى عرقلة علاج أختي، تعرقل سفرها بالفعل بسبب الحرب، ونهش المرض عظمها، حتى ماتت في يناير 2024، دفنّاها قرب البيت إلى جانب أخي وأختي الذين سبقوها بالوفاة بهذا المرض”.
انهمرت الدموع من عيني ولاء التي تصف ما حدث بأنه حسرة ما زالت تكوي قلوبهم، واسترجعت أوقات صعبة عانت خلالها فاطمة من الألم دون وجود علاج، لكن الأقسى على قلب ولاء وأمها حين عادوا إلى البيت بعد الانسحاب الإسرائيلي، فوجدوه مدمّرًا بالكامل، بينما جرّف الاحتلال قبور إخوتها الثلاثة، حتى فاطمة التي لم يمضِ على وفاتها بضعة أشهر.
“لن يُمحى من ذاكرتي أبدًا مشهد أمي وهي تصرخ وتجري دون وعي وتنادي بأسماء إخوتي المتوفين، فوجئنا بنبش القبور وتناثُر رفات إخوتي، حين رأينا المشهد لم يعد لدينا قوة لنتحمّل”، تقول ولاء.
عادت عائلة ولاء إلى ركام منزلهم المدمّر حيث أقاموا خيمتهم بعد الانسحاب الإسرائيلي من المنطقة، تعقّب: “كنت أتمنى أيامًا أهدأ من سابقتها، لكن أي راحة بال وفتات الركام فوق رأسي وصوت طائرات الاستطلاع والطائرات الحربية تُغير في الأجواء، ومع كل ضربة تتساقط أكوام من الركام”.
بالنسبة لولاء، فإن البيوت ليست حجارة، بل تحوي بين جدرانها تفاصيل حياتنا وراحة بالنا التي ذهبت، هي لحمنا وتعب سنيّ عمرنا، كانت أمانًا واستقرارًا انتهى الآن.
تبدل الحال كما تقول ولاء، فالبيت تحوّل إلى خيمة، فيها تعيش المعاناة، وفيها تمارس عملها الصحفي، إذ عادت للعمل، بعد فترة الانقطاع السابقة، بعد وفاة فاطمة لم يعد هناك ما تخشاه.
تقول ولاء: “تفاصيل العيش في الخيمة صعب، أستيقظ منهكة من قرص الحشرات والسحالي والخنافس وحشرات أخرى لا أعرفها، حرارةُ الخيمة ملتهبة جدًا، تتزايد بسبب حرارة الصيف، تجرّعنا هنا معاناة الطهي على النار، النزوح مميت وفكرة الحصول على مقومات الحياة صعبة جدًا في ظل الغلاء الفاحش، حتى حين أحصل على راتبي أعاني بشدة بسبب تعذّر وجود سيولة في قطاع غزة”.
وما بين معاناة الطهي على النار التي مثلما أحرقت بشرتها أحرقت كذلك جالونات المياه التي تضطر لحملها يوميًا بنية جسدها النحيل، فالغسيل اليدوي يوميًا أصابها بالأكزيما، الحرب أجبرت ولاء على ما لم تعتده أبدًا في حياتها.تختم: “هذه الحرب أرهقتنا أكثر مما يحتمل البشر”.