هَرِّمنا …

تنزيل (1)

أميرة الزبيدي – CMC

يطلبون منا أن نكتب تجربتنا في الحرب , هذه المرة الأولى التي أحس أن هناك أشياء لا تكتب , كيف نكتب خوفنا ؟! , كيف نكتب أدعيتنا لكي لا تهطل العتمة التي  يضيئها الموت ؟! , كيف أخط دموع خوفي على أمي ؟! , التي أصبحنا نلقبها بالفدائية , كيف أكتب شهوة الأطفال في الخروج للعب ؟! , كيف أعبر عن فخرنا بإنجازات المقاومة ؟!.

بدأت الحرب و انتهت كما الإعصار , الذي يذهب و يترك وراءه موتنا و بؤسنا و دمارنا , في منتصف الليل من يوم 7 تموز 2014 , سمعت أولى الغارات, في تلك الليلة كنت أنا و ابنة أختي نائمتين عند أختي الكبرى , فاتصلت بي أمي في ظهيرة 7 تموز , و قالت :” بدت الحرب , روحوا ع الدار قبل ما يصير اشي” .

سمعت كلمات أمي ببرود , و قلت لنفسي لما الخوف نحن نسكن في منطقة آمنة ببلدة جباليا شمال القطاع  , عدت و ابنة أختي إلى البيت و بدأنا نحضر لإفطار اليوم التاسع من رمضان , في اليوم التالي بدأت تظهر لي معالم الحرب و الخطر المحدق بنا , عندما استهدفوا أرضاً زراعية قبالة منزلنا على بعد 500 متر تقريباً , تم الاستهداف وقت الإفطار , كنا 17 فرداً في البيت من بينهم 8 أطفال.

تركنا فطورنا منا تسمر يستقبل الصدمة , و اخر وقف يتفقدنا, هذا الحدث تكرر ثلاث مرات بعد ذلك خلال ال 51 يوماً , واحدة قبل الإفطار بساعات كنت نائمة واستيقظت على صوت الانفجار , فتحت عيناي فخُيل إلي و أنا نصف واعية , الحائط الذي بجانبي و الذي أمامي يميلان على بعضهما و يعتصراني .

جميع أيام الحرب كانت متشابهة إلى حدٍ ما , أصوات في أصوات , منها البعيد و القريب و منها المستمر كالزنانات و البوارج و منها اللحظي كالصواريخ و القذائف  ,لكن كابوسي الأكبر هو الليل , كان بالنسبة لي رفيق الموت , خصوصاً مع انقطاع الكهرباء , طوال فترة الحرب لم أكن أنام في الليل , كنت أنتظر طلوع الشمس , كان الضوء كقصة ما قبل النوم لطفلة لا تنام دونها .

ثاني أيام عيد الفطر المبارك , كان اليوم الذي شعرنا فيه حقاً أنه جاء دورنا بعد الشجاعية و بيت حانون , في ظهيرة اليوم , استهدافات كثيرة عشوائية و متتالية , تجمعنا 18 فرد نصفنا أطفال في ممر البيت بالقرب من الحمام , قالت أختي الكبرى :” البيت محاط بالأراضي الزراعية و هي الأكثر عرضة للاستهداف , فالأسلم أن نخلي البيت ” , أمي الفدائية لم تكن في البيت , إنها تذهب وتجيء بلا خوف أو حذر كأن لا شيء يحدث حولها , أمي معطاءة جداً , هنا لا أعبر عن عطاءها لأبنائها فقط , و إنما لجميع من حولها , فطوال الحرب لم تقبل أن تغلق دكانها , تلبية لاحتياجات أهل الحارة و أطفالهم , و كانت كلما سمعت صوت انفجار قريب تتصل بنا لتطمئن .

ثاني أيام العيد  طلبت والدتي أن نخلي البيت و نأتي  إلى بيت أختي الكبرى المجاور للدكان , خرجت واخوتي حاملين بعض الملابس و أوراقنا الثبوتية و طعام الغداء , الذي منعنا ذلك القصف الهمجي من تناوله , لا أنسى يومها كيف نظرت إلى كل شيء في بيتنا نظرة كأنها الأخيرة , سريري , خزانتي , ملابسي , كتبي , و كل حياتي في هذا البيت الذي فجأةً صار جميلاً و عزيزاً علي , عندما فكرت أنني ربما أعود لأجده ركاماً .

قضينا أسبوعاً كاملاً في بيت شقيقتي , ننام كل ثلاثة أفراد على فرشتين , عانينا من أزمة مياه الشرب و مياه الاستعمال المنزلي , و لم نك نرى الكهرباء إلا كل ثلاثة أيام ساعتين , و كنا نذهب إلى منزلنا بالتناوب لنستحم و نجلب مياه للشرب من خزاننا , بعد أسبوع , قالت أمي :” هي الوضع هادي , بكفي شنططة , خلينا نرجع ع دارنا و اللي كاتبه الله بصير ” .

عدنا إلى منزلنا ليلة اليوم30 للحرب , بمجرد أن أنهينا عشاءنا بدأت أصوات الانفجارات , قلنا لبعضنا على سبيل المزاح :” هاد هو الوضع الهادي , قوموا يا ولاد يلا نرجع هناك ” , أمضينا الليلة و نحن نتحدث و نضحك على أنغام أصوات القصف .

لم نكن في كثير من الأحيان نتعمق بالتفكير أن كل صوت انفجار نسمعه , يحمل نبأ استشهاد أو اصابة شخص نعرفه أو سنعرفه فيما بعد إن نجا و نجينا نحن أيضاً , يقال أن المعتقلين الذين يعدون الجلدات التي يتلقونها من جلاديهم , يضعفون و يستسلمون بسرعة , فربما هذه الطريقة في التفكير أن هذا صوت انفجار لا أكثر و لا أقل , أن هذا الألم قريباً سيزول , هي التي تجعلنا قادرين على التحميل و تحمينا من اليأس و الجنون .

الحرب علمتنا الكثير , و جعلتنا نؤمن بالعديد من الأشياء التي كنا لا نعيرها اهتماماً , منها أن من نحبهم ليسوا معصومون عن الموت , لا أنسى دموعي عندما شعرت أنني كنت سأفقد أمي الفدائية , عندما قررت أن تذهب تحت القصف العنيف في مخيم جباليا ثاني أيام العيد , لتطمئن على عمها العجوز و زوجته .

في النهاية من جميل فطرتنا البشرية أننا ننسى تفاصيل وجعنا , و هذا ما يجعلنا قادرين على الاستمرار في العيش , و أيضاً هذا ما يجعل كل عدوان كأول عدوان , فنحن لم و لن نعتاد , و نحب الحياة ما استطعنا إليها سبيلاً .

الرابط المختصر : http://ywjournalists.org/ar/?p=235

المقالات والآراء المنشورة تُعبر عن رأي أصحابها، ولا تُعبر بالضرورة عن رأي مركز الإعلام المجتمعي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى