ماذا يعني أن تكون/ي جدة وأم وامرأة وتعيش في قطاع غزة؟
ماذا يعني أن تكون/ي جدة وأم وامرأة، أوجدك الله في هذه البقعة المسماة غزة في هذه الأوقات …؟
غزة – عندليب عدوان
لا يظن أحدكم أني أوجه خطابي للجنسين من باب حرصي على المساواة الجندرية ومراعاتي لتكون لغتي حساسة للنوع الاجتماعي، أبدا.. ولكني قصدت أن يحاول كل منكم رجل وامرأة – أنتم الذين أوجدكم الخالق خارج غزة، سواء أكنتم فلسطينيين/ات أم غير ذلك- أن تحاولوا جديا تخيل أنفسكم/ن في غزة الآن، ولو لدقائق معدودة، -اعتبروه شكل من أشكال التضامن مع أهل غزة التي خرجتم للتظاهر من أجلها-.
ما سأقوله ليس فريدا ولا خاصا، ولا أسجله بقصد كسب التعاطف أو إثارة المشاعر، بل إن هناك مئات الآلاف في غزة من النساء الجدات والأمهات اللواتي يعشن معاناة لا يمكن تصورها، ولكن لم يتيسر لهن تسجيل معاناتهن لأسباب لا تنتهي، بعض من هذه الأسباب أنهن استشهدن أو جرحن أو تشردن في الشوارع ولدى الأقارب أو مدارس الأونروا بسبب فقدانهن لبيوتهن، ولم يتمكن من انتشال أي أوراق خاصة ربما بدأن بتسجيل مخاوفهن عليها بين القذيفة والقذيفة بينما هن يحرسن نوم الأطفال المبلل رعبا وكوابيس..
أن تكون/ي امرأة بلغت من العمر 55 عاما وأم لأربعة من الشباب، ثلاث منهم مغتربين في آخر الدنيا، ويراقبونك عبر حساباتك على وسائل التواصل الاجتماعي، وعبر حسابات أصدقائك وصديقاتك والجيران، ويراقبون الأخبار عبر القنوات الإعلامية المحلية والدولية، ويتصلون على مدار الساعة رغم فارق التوقيت الشاسع بينك وبينهم، مع الإصرار على ان تكون مكالمة بالصوت والصورة، ليقرأوا بأعينهم ملامحك وما يمكن أن تخفيه كلماتك، ويعايشون رعبك وخوفك وقلقك أضعافا مضاعفة تحت ثقل شعورهم بالعجز عن مساعدتك من ناحية وخوفهم من فقدك وانضمامك لقوافل من يٌفْقًدون على مدار الساعة دون سابق إنذار ويذهبون دون وداع.. هل تتخيلون ذلك النزاع الذي تعايشه الأم عندما تقمع مشاعرها وتكبت رعبها فلا تصرح عنه بأي طريقة كانت، خاصة وأن الابن الرابع الغائب عن البيت منذ قامت قيامة غزة وحتى اللحظة ويمكث في مكتبه البعيد عنك حوالي 3 او 4 كيلو متر ليقوم بواجبه كصحفي يغطي الأحداث على مدار الساعة ويبثها ليشاهدها الشعب الياباني الصديق في آخر الدنيا من الناحية الأخرى، ويراقبك هو الآخر من هناك عبر كاميرا منصوبة على نافذة في طابق في بناية مرتفعة، ويتابع أخبارك لحظة بلحظة، ويتصل كلما حانت له الفرصة ليطمئن عليك ووالده وزوجته الحامل في شهرها التاسع وابنه الطفل ذو الثلاث سنوات، يعد أنفاسك عليك هو الآخر، ويستمد قوته من قوتك ليواصل عمله بعيدا عن عائلته تحت الخطر الذي يلاحق الإعلاميين ومكاتبهم وكاميراتهم التي تنقل بشاعة ما تفعله بنا إسرائيل وداعميها..
أن تكون/ي أم، كوم، وأن تكون/ي جدة خمسة عشر كوما آخر في المقابل.. جدة لطفل لم يكمل سنواته الثلاث بعد، والله فاتح عليه بقدرة رهيبة على الكلام والسؤال والتحليل والتخيل والتمثيل والغناء والرقص والنط والاستعراض و” المفادرة ” بشكل لا يصدق. يرميك برشقة من الأسئلة دفعة واحدة، وعليك أن تقوم بدورك كقبة حديدية وأن تمسك ببعض الأسئلة وأن تبدأ بالإجابة عليها، فيقذفك برشقة جديدة قبل ان تكمل إجابة واحدة، ثم تأتيكما أنتما الاثنان رشقة قذائف تصم أذنيكما وتخلع قلوب سكان المنطقة كلها هلعا، فيطير الصغير بغمضة عين ويقع في حضنك، واضعا يديه الصغيرتين على أذنيه محاولا تفادي الأصوات المرعبة المصحوبة باهتزازات كالزلزال، فتعتصره /يه محاولة لوضعه في جوفك شفقة عليه… وما إن تتلاشى أصوات القذائف، يعود اليك بالأسئلة من حيث انتهيت أنت بالإجابة، لماذا، وكيف، وأين، وهل نحبهم؟ وهل هم حبيبي؟ هل سنموت؟ هل هم يموتوا؟ هل نحن أقوى منهم؟ هل يقدرون علينا؟ هل نضربهم؟ هل نهرب منهم؟ هل سيأتون علينا؟ لماذا يضربوننا؟ لماذا لا نضربهم؟ لماذا ليس لدينا طائرات مثلهم؟ هل مصر تحبنا؟ هل طاب حمزة؟ هل جاء العيد؟ أين ذهب رمضان؟ متى سيرجع بابا؟ ويجب أن تنظر في عينيه بينما هو يتحدث معك، وأن تظهر/ي جدية واهتمام، والا سيسحب الموبايل من يدك او السماعات من أذنيك، ويأمرك بالرد، ردي عليّ، كلميني، تاتا سامعاني؟ ؟ ثم تأتي دفعة جديدة من دوي القذائف القريبة منك هذه المرة بشكل أوضح من سابقاتها، فيصبح قلب الصغير مثل موتور كبير على سيارة صغيرة، وتسمع/ين دقاته كزئير هادر، ويصمٌ أذنيه بيديه الصغيرتين ويبدأ بضحك هستيري مفتعل كممثل محترف يداري هلعه… وحينها ليس أمامك الا أن تقمع/ي هلعك أمام محاولاته إظهار الشجاعة وعدم الخوف..
وإن ضبطك والدموع لم تتجمع بعد لتسقط وأنت تشاهد/ين فيديو من سيل الفيديوهات التي تخلع القلب، ستتغير ملامحه مباشرة، وسيكسوها الحزن والتعاطف والحنان وسيمسك بيدك بلطف بالغ ويسألك، أنت بتعيطي يا تاتا؟ فيفرط عقد دموعك حينها أنهارا ..
وأن تكون/ي جدة لطفلة ما زالت جنين في الشهر التاسع في بطن أمها الخائفة القلقة، وأن ترجو الله في سرك أن لا تقرر النزول الى هذا العالم في هذا الوقت وهذه الظروف بالتحديد، وأن تعلن رجاءك هذا تحت مبرر المزح مع الام الحامل كلما اشتكت وجعا وأمسكت بطنها ألما، فتقول/ي لها امسكي نفسك، ليس هذا وقت للولادة أبدا، في ذات الوقت الذي يعالج فيه عقلك كل الاحتمالات والتفاصيل الخاصة بعملية الولادة، لو كانت الآلام هذه آلام المخاض فعلا، وتحت هذا القصف وهذا الرعب وفي غياب زوجها وانشغاله بعمله الصحفي، والدمار المتناثر في الطرقات واكتظاظ المشافي.. أين سنذهب؟ وكيف سنصل؟ وهل سيستطيع طبيبها الإيفاء بوعده ومباشرة ولادتها، وهي التي ترتب منذ أكثر من شهرين معه ومع طبيب التخدير؟ وهل ستتمكن والدتها من القدوم كما جرت العادة لدى الأمهات أن يساندن بناتهن في الولادة؟ هل سيأتي المخاض ليلا في هذه العتمة الملتهبة بالقذائف؟ هل سيصحو الصغير الفيلسوف أثناء خروج أمه للولادة؟؟؟ كيف سنقنعه بالمكوث مع جده وانتظار أمه لتعود بأخته؟ هل ستجري عملية الولادة بسلام؟ ماذا لو كان القصف في منطقة المستشفى؟ ماذا … ثم ينقذك دوي انفجارات دفعة جديدة من القذائف من مصارعة أفكارك وافتراضاتك حول قضية ولادة الحفيدة، فتعود/ي لمصارعة الأفكار النمطية المعتادة التي تسيطر عليك كلما اشتدت حدة دوي القذائف حولك.. ماذا سآخذ معي بالضبط إن اضطررنا للخروج من المنزل وإخلائه مثل ما تفعل العائلات في كل أنحاء غزة؟ اين سنختبأ إن لم نخرج من المنزل واستمر القصف؟؟ لن اختبأ في “البدروم” أو “البيسمنت” كما تسميه زوجة ابني، وهو غرفة تحت مستوى الأرض في منزلنا، لا أريد الموت مدفونة تحت المنزل لا يستطيع أحد الوصول لجثتي، أفضل الموت على وجه الأرض، خاصة وأن غرفتنا التحت أرضية هذه ذات مدخل ومخرج واحد وليس لها مخرج آخر.. وإن خرجنا من منزلنا.. أين سنذهب والى أين سنصل ومعنا زوجة ابني الحامل بمشية السلحفاة، والفيلسوف الصغير من سيحمله ومن سيحمل شنطة الأوراق وشنطة الولادة المجهزة، أو بالأحرى من سيحملنا جميعا، وهل سيتمكن ابني من الوصول لنا وحملنا في الوقت المناسب؟؟ سيناريوهات وسيناريوهات للخروج والهروب والولادة والأمان وكلها فاشلة في ظل المعطيات التي تجري حولك.. ثم تتذكر/ي كونك امرأة أنك لابد أن ترتدي ثيابا لائقة للخروج، هل معك وقت؟ هل ستنتعل/ي حذاء ام شبشب، وتضرب عينك نظرة خاطفة على الشبشب تحت قدميك ان كان موجودا ام اختفى لأي سبب، بينما انت تتربع/ين على الكنبة مستندا/ة بظهرك على الحائط غارق/ة في هذه الأفكار النمطية حول سيناريو الإخلاء إن اضطرك الأمر.. ثم تقفز مستخفا/ة التفكير في قضية النعل وتبدأ/ين في التفكير في الموت تحت الركام حتى قبل ان تعرقلك لجة الهروب واللباس والحذاء، تفكر/ين في الرسالة التي يراودك محتواها كلمة بكلمة، كلما فكرت بالموت لأي سبب كان، سواء لحادث عارض، كورونا أو غيره، فكيف الآن والموت يحوم في كل الأنحاء ويحيط بك ويطبق على صدرك؟؟ رسالة توجهها/ينها لابنك الموجود معك في غزة، أو هي بالأحرى وصية، تود أن تخبر/ي بها عن أشياء وترتيبات خاصة بأبناءك المغتربين والموجودين في غزة، وفي كل مرة تهم/ين بكتابة الرسالة، تقمع/ين هذه الرغبة بكل قسوة رحمة بأولادك وخوفا عليهم من خوفهم عليك..
ثم تقمع كل هذه الأفكار الشخصية، وتذهب/ين للتفكير بأمور نمطية أيضا خاصة وأنها أصبحت مملة ومتكررة من العدوانات السابقة. أفكار على شاكلة كيف سنعرف عن إنذار بالقصف لأي من الجيران في المحيط؟؟ وتهجم عليك ثانية الأفكار المتعلقة بالإخلاء، الثياب اللائقة بالخروج، الأوراق الخاصة، الطفل الفيلسوف، الحامل السلحفاة، الزوج الرافض لفكرة الاخلاء جملة وتفصيلا، فتستقر على رأي أن الموت في بيتك مفضل أكثر من الموت في الشارع، أو في بيوت الناس اذا كان لابد من الموت.. تهدأ نفسك لهذه الفكرة وتستسلم/ين لهزة متواصلة كزلزال خفيف أو دوار شديد، وتحاول/ين التهرب منه بالنوم فلا تفلح/ين، فتواسي نفسك ومن حولك بالتفكر في الأهداف والتكتيكات وراء كل مايحدث لك، لنا جميعا في غزة، فيعجز عقلك عن استيعابها
تستكين/ين لتدعو لنفسك وللناس بالصبر والثبات والقوة والعون، خاصة لمن تدمرت بيوتهم وتشردوا وأطفالهم في الشوارع، ومن فقدوا أحباءهم تحت انقاض البيوت ومن شهدوا سقوط مساكنهم وذكرياتهم أمام أعينهم، ومن تكتظ بيوتهم بالناس وتخلو من الطعام ومن لديهم مرضى ومسنين وذوي إعاقة ممن يحتاجون رعاية متواصلة، وتستودع/ي نفسك وأهلك وناسك وبيتك لدى من لا تضيع عنده الودائع أبدا.
المقالات والآراء المنشورة تُعبر عن رأي أصحابها، ولا تُعبر بالضرورة عن رأي مركز الإعلام المجتمعي.