في خيمة مي .. لا خصوصية ولا أسرار

غزة- هيا بشبش:

“حين تكون أقلّ حركة تحت المراقبة، وأي صوت يسمعه الجميع، تتحوّل أبسط الاحتياجات الشخصية إلى عبءٍ ثقيل، فلا أبواب تمنحنا الراحة، ولا جدران تعطينا الخصوصية”.

هكذا لخّصت مي أبو شعبان (46 عامًا) حياتها، السيدة التي أجبرها جيش الاحتلال الإسرائيلي على النزوح من بيتها في جباليا شمال قطاع غزة يوم 3 يونيو 2025م، إلى خيمةٍ على شاطئ بحر مدينة غزة، كانت قد تنفست الصعداء بعودتها إلى بيتها في يناير 2025م بعد نزوحٍ لأكثر من عام جنوب القطاع، لكنها عادت إلى ذات الجحيم!

منذ بداية الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة يوم 7 أكتوبر 2023م، حاولت السيدة المكنّاة بأم محمد الصمود في بيتها مع زوجها وأطفالها الثلاثة، لكن جيش الاحتلال أجبرهم على النزوح إلى مدينة رفح جنوب قطاع غزة، في نوفمبر 2023م، فكانت تجربتها الأولى مع العيش في الخيام.

تقول: “أنشأ زوجي خيمة على ناصية الطريق، كان الضجيج مرهقًا، حاولت الحفاظ على أبنائي من السيارات، أما المعضلة الأكبر فكانت إعداد الطعام تحت أعين المارة”.

تكمل أم محمد وهي تعدّ إبريقًا من الشاي على كانون النار: “هناك معاناة للنازحين عمومًا، ومعاناة أكثر خاصة بالنساء، ذات مرة اجتمعنا أنا وجاراتي في محاولة للشكوى وتخفيف همومنا والتفكير معًا بحلول بسيطة، مثل وضع ستارة فاصلة في جزء من الخيمة لاستخدامها غرفة لتبديل الملابس، أما المرحاض فلم نجد له حلًا”.

تشير أم محمد إلى ملابسها التي (انطبعت بالشحابير) وغبرة الشوارع التي التصقت في أسفل ثوبها وتضيف: “هذا ما وصل إليه حالنا، لا نظافة تكتمل ولا نوم يريح الجسد ولا طعام نسكت به جوع بطوننا”.

تحاول إخفاء دموع عينيها بالنظر بعيدًا وهي تكمل: “بعد الاجتياح البري لرفح في مايو 2024م، انتقلنا إلى مخيم إيواء في مدينة الزوايدة وسط القطاع، لم أشعر بالحياة إلا حين عدت لمنزلي في جباليا في يناير 2025م، كان ما زال قائمًا وقد تضرر بعض الشيء، عندما رأيته سقطت على الأرض فرحًا وبكيت، لكن فرحتي لم تكتمل، وعدت للنزوح مع استئناف الحرب”.

يوم 3 يونيو 2025م، نزحت مي وأسرتها إلى خيمةٍ على شاطئ بحر غزة في منطقة الشيخ عجلين بسبب القصف الشديد، اصطحبت معها القليل من الملابس وبعض الأغطية.

تلاصُق الخيام يتسبب في انعدام الخصوصية كما تؤكد مي، فهذه المرة لم تستقل بخيمةٍ هي وأسرتها، بل تشاركت ذات خيمة عائلة زوجها، وذات المرحاض، خيمة صغيرة تنام فيها مع أطفالها ووالدي زوجها وشقيقته، ولم يجد زوجها متسعًا له داخل الخيمة الصغيرة فنام على بابها.

تضيف بعدما وضعت وعاء الطعام على النار: “الخيمة صغيرة، لذلك الطبخ وغسل الأواني والملابس يكون في زاوية صغيرة بجوار الخيمة، أمام أعين المارة، ما يسبب لي إحراجًا شديدًا، وفي المجاعة الطبخة صغيرة واضطر لتوزيعها على من يطلب من أهل زوجي من الناس الذين يقيمون حولنا، حتى وإن تدبرت أمر الطبخ، فلا مكان لتناوله، هنا لا يوجد خصوصية”.

وفي ظل عدم وجود شبكات مياه، تساعد النساء في عملية نقل الجالونات الثقيلة لمسافات طويلة، تقول مي: “حمل الجالونات سبب لي آلام في الظهر والمفاصل، خاصة أني أعاني من غضروف في العمود الفقري، أحتاج دائمًا إلى التمدد للتخفيف من آلام قدماي، وللأسف هذا غير متاح، فأنا لا أملك خيمة خاصة”.

أما المرحاض فله طقوسٌ أخرى تصفها أم محمد: “موكب لاستخدام الحمام العام، أصطحب أطفالي الثلاثة، ابنتي الكبرى تنتظرني خارج الباب كي لا تسمح لأحد بالدخول، وتحثهم على الانتظار، وحين أنتهي أعرض على أطفالي دخول الحمام كي لا نضطر للوقوف طابورٍ جديد”.

وللاستحمام معاناة أخرى، إذ تضطر مي إلى إخلاء الخيمة من الجميع، وتكمل: “أمرٌ محرج جدًا، فأنا أقوم بتعزيل الفراش وأستخدم طشت (وعاء بلاستيكي كبير) حتى لا تتحول الرمال إلى أرض ضحلة”.

“حياة مذلة”، كما تصفها أم محمد، وتكمل: “أرتدي الحجاب في جميع الأوقات، عند تحضير الطعام، أثناء جلب المياه، حتى أثناء النوم، وما يزيد الوضع صعوبة حرارة الجو، حياتي الزوجية تضعضعت بسبب عدم وجود خيمة خاصة، لجأت إلى خيمة أهلي لأتمتع ببعض الخصوصية، وأحاول تسريح شعري الذي أصبحت أسرّحه كل شهر مرة حين تتاح الفرصة”.   

ويخالف ما تتعرض له مي اتفاقية جنيف الرابعة الخاصة بحماية المدنيين وقت الحرب، والتي نصت في مادتها (27) على ” أن للأشخاص المحميين حق احترام أشخاصهم وشرفهم وحقوقهم العائلية وعقائدهم الدينية وعاداتهم وتقاليدهم”.

تستذكر ذات مرة حين كانت تتحدث مع زوجها بموضوع في الخيمة، ولم تعلم أن جيرانها في الخيمة المجاورة يسمعون الحوار إلا حين شاركوهم الحديث، فتوقفا عن الكلام في الخيمة.

تختم:” كل ما أتمناه أن تنتهي الحرب وأعود لحياتي وخصوصيتي”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى