فقدت ثلاث شقيقات الطبيبة (إسلام) تختصر حزنها بإنقاذ الأرواح
دير البلح – هبة أبو عقلين
“وأنا على رأس عملي في المستشفى، كلُ يومٍ يمرّ أسوأ من سابقه، لكن أقسى المشاهد التي عايشتها على الإطلاق؛ هو رؤية قدم أختي الشهيدة ناهد دون جثّتها، خلال هذه الحرب التي أكلت من أرواحنا وأرواح أحبّتنا”.
بهذه الكلمات تحدّثت الطبيبة إسلام الحوراني (25 عامًا)، والنازحة من معسكر جباليا شمال قطاع غزة، إلى خيمةٍ من القماش المهترئ في مدينة دير البلح وسط القطاع.
إسلام الحوراني هي طبيبة فلسطينية، تخرّجت من كلية الطب في جامعة الأزهر بمدينة غزة قبل شهر من الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة؛ التي اندلعت يوم 7 أكتوبر 2023، ولم تتمكّن بسبب الحرب من الحصول على شهادتها، تطوّعت في المستشفى الأندونيسي ثم مستشفى كمال عدوان شمال قطاع غزة، وحاليًا تتطوّع في مستشفى شهداء الأقصى بمدينة دير البلح جنوب القطاع.
بعد اندلاع الحرب، انطلقت الشابة إلى المستشفى تتعامل مع مئات الحالات التي تصل المستشفى يوميًا، وعندما أجبر جيش الاحتلال الإسرائيلي الفلسطينيين سكّان شمال قطاع غزة على النزوح إلى جنوبه يوم 13 أكتوبر 2023، لم تكن إسلام وعائلتها ضمن النازحين بدايةً، بل اختاروا البقاء، وهي اختارت مواصلة عملها الإنساني.
تسقط دموعها وهي تروي: “يوم 31 أكتوبر، الساعة الثالثة عصرًا، شعرت أن كتلةً ثقيلةً سقطت من السماء وهزّت الأرض، قفزت لا شعوريًا ووقفت أتلفّت خلفي لا أعلم ماذا حدث، القصف المجنون دمّر بيت أختي ناهد القريب من بيتنا، والمربع السكني الذي تعيش فيه، أيقنت أن ناهد وأبنائها ومعهم أخواتي إيمان وعبير أيضًا استشهدوا جميعًا، حيث كانوا معها في البيت”.
هرعت إسلام المستشفيات والمراكز الطبية بحثًا عن جثث شقيقاتها، لم تجد سوى قدم ناهد التي عرفتها من بنطالها، فقد كانت تتواجد في بيتهم قبل القصف بوقت قصير وكأنها تُلقي نظرة الوداع على بيت أهلها، قبل أن ترافقها إيمان (19 عامًا) وعبير (13 عامًا)، بينما تراجعت إسلام عن مرافقتهن كونها كانت مرهقة، بعد يوم عملٍ شاق في المستشفى.
ويتنافى استهداف المدنيين، مع بنود اتفاقية جنيف الرابعة الخاصة بحماية المدنيين وقت الحرب، والتي تنص في مادتها (33) على حظر الاقتصاص من الأشخاص المحميين وممتلكاتهم.
تتابع إسلام: “عدت إلى مستشفى الأندونيسي، انزويت وبكيتُ قهرًا، ذهبت إلى صالة الطوارئ لاستئناف عملي هناك، شهداء، جرحى، أطفال متفحّمين، كل قواميس اللغة لا تسعفني لوصف بشاعة المشاهد، الموت كان يحوم حولي في كل مكان”.
مع كل حزنها على شقيقاتها، اختارت إسلام، أن تعزّي نفسها بمحاولة إنقاذ المصابين، فكل روحٍ تسعفها، تشعر أن أرواح شقيقاتها وأبناء أختها ناهد تحوم حولها راضيةً بصنيعها، لكن استمرار الحرب الجنونية الذي حال دون منحها الفرصة للحزن على شقيقاتها، أيضًا أجبرها على ألم جديد.
تسند ظهرها إلى عمود الخيمة وهي تكمل: “يوم 19 نوفمبر 2023، أجبرنا الاحتلال على النزوح إلى جنوب قطاع غزة، عندما قصف بيتنا واستمر القصف على معسكر جباليا وطلبوا منا الإخلاء، توجّهنا إلى نتساريم جنوب مدينة غزة من أمام الدبابات وتحت نيران القذائف بحثًا عن مكان آمن للإيواء ولم نجد، وهنا في دير البلح، أقمنا خيمتنا في أرضٍ فارغة”.
خرجت إسلام من خيمتها وهي تحمل قارورة ماء رَوت بعض النباتات على باب خيمتها وهي ترسم ابتسامة خفيفة وتقطع القصة بقولها: “هذه نباتات زرعتها عندما نزحنا، علّ اللون الأخضر يخفف شيئًا من حزني ونار قلبي”.
اضطرت د. الحوراني للعيش في خيمةٍ رغم صعوبة ذلك عليها، فهي لا تقي حرّ صيف ولا برد شتاء، ولا تحفظ الكرامة الإنسانية، زرعت إلى جانب الخيمة نباتات كمظهرٍ مريح للنفس.
تُكمل: “يبقى التحدّي الأكبر هنا عدم توفّر المياه وإن توفّرت فهي غير صالحة للشرب، وتسبب الكبد الوبائي، وهناك حالات تسببت بوفاتها”.
في دير البلح، تطوّعت إسلام لتطبيب المصابين في مستشفى شهداء الأقصى، الذي يعمل في ظروفٍ بالغةِ التعقيد خاصة مع الاستهداف الإسرائيلي المتكرر للمستشفيات والمرافق الصحية ونقص المستلزمات الطبية، وخروج الكثير منها عن الخدمة.
تصف د.إسلام مستشفى شهداء الأقصى :”ساحته امتلأت بالعائلات التي توزّعت في كل مكان، أطفال ونساء ورجال ومرضى لا تكاد تجد مترًا خاليًا”.
ومع كل هذه الصعوبات تواصل إسلام العمل، هي تنقذ الأرواح لرغبتها ألا تفقد عائلات أخرى أحبّتها ولا يجرب آخرون ما جربته حين فقد أخواتها الثلاث، لكنها مع ذلك عايشت الكثير من المجازر التي تركت أثرًا مفزعًا داخلها، ومنها مجزرة النصيرات حيث ارتقى أكثر من 200 شهيدة وشهيدًا مرةً واحدة.
تختم: “أمنيتي أن تتوقف الحرب ويتوقف سيل الدماء”.