وجدوها على غصن شجرة… رضيعةٌ لم تُعرف عائلتها تحتضنها أمٌ بديلة
رفح – خديجة مطر:
وسط سرير صغير تنام رضيعة لا يُعرف ما اسمها! ولا حتى من أنقذ حياتها، أو إن كان أحد أفراد عائلتها على قيد الحياة أم ماتوا جميعًا، كل ما هنالك أن أمًا بديلة أطلقت عليها اسم (ملاك)، ليكتبَ لها القدر النجاة من بين عتبات الموت؛ بعد أن عُثِر عليها معلّقة على أغصان شجرة!
الحكيمة الفلسطينية آمال أبو ختلة (32 عامًا)، هي ممرضة تعمل داخل قسم الحضانة التابع لمستشفى الهلال الأحمر الإماراتي بمدينة رفح جنوب قطاع غزة، تروي حكايتها مع العدوان والأمومة.
تحمل الحكيمة آمال الرضيعة (ملاك) بين يديها ثم تقبّلها وهي تروي: “يوم 20 نوفمبر 2023، بدأت أول إنجازاتي وأعظمها في الحياة رغم ألمها، في هذا اليوم، كتب القدر لي اللقاء بالطفلة ملاك، حيث نُقِلت طفلة (مجهولة الهوية) برفقة عشرين طفلًا رضّعًا إلى الحضانة التي أعمل بها في المستشفى الإماراتي”.
كان هؤلاء الأطفال يتلقّون الرعاية الطبية في مستشفى الشفاء بمدينة غزة، عندما شنّ الاحتلال الإسرائيلي عدوانه على المشفى الذي تعطّل عن العمل، وتم نقلهم إلى المستشفى الإماراتي، رغم أن ما حدث يتناقض مع بنود اتفاقية جنيف الرابع التي تحظر الاعتداء على المستشفيات وقت الحرب.
تلقّى جميع الأطفال الذين تم إحضارهم الرعاية الطبية الكاملة في المستشفى الإماراتي برفقة الطفلة (ملاك)، ليُكتب لجزء منهم الحياة وآخرون فارقوها مبكّرًا بسبب سوء حالتهم وشحّ الإمكانيات، وهناك مَن تم نقلهم إلى خارج قطاع غزة.
بابتسامة هادئة حانية تضع الحكيمة آمال الطفلة ملاك مجددًا وسط السرير وهي تكمل: “مكثت ملاك في المستشفى ثلاثة أشهر رغم سلامة صحتها، فلا معلومات حولها، ولا تفاصيل تسمح بالبحث عن عائلتها، إذ ذكر ملفها الطبي أنه تم العثور عليها معلقّة على أغصان شجرة بعد مجزرةٍ بحي الصبرة وسط مدينة غزة دون أي معلومة أخرى”.
فجيش الاحتلال الإسرائيلي، بعدما شنّ حربًا على قطاع غزة يوم 7 أكتوبر 2023، قصف آلاف المنازل على رؤوس ساكنيها، كما أجبر مئات آلاف المواطنين على النزوح إلى جنوب القطاع، في تناقض مع نصوص اتفاقية جنيف الرابعة التي تحظر التعرّض للسلامة البدنية والجسدية للمدنيين، أو النقل القسري لهم.
عودة إلى الرضيعة التي بات استمرار تواجدها داخل المستشفى خطرًا عليها، فمن المهم نقلها لتعيش حياة طبيعية، فقد بلغت الشهر الثالث من عمرها وما زالت لا تُصدر أي صوت (مناغاة)، كانت تُدعى بـ”الطفلة المجهولة”، وهنا خطر على بال الحكيمة آمال اسم (ملاك).
تبتسم آمال مجددًا وهي تكمل: “كانت نائمة بهدوء كالملاك، شعرت أنها هدية الله لي، هي ضحية حربٍ بشعة ارتكبها جيش الاحتلال الإسرائيلي تجاه براءتها، وبقت وحيدة بلا ذنب، ليشاء القدر أن أجتمع بها وأتكفّلها بالرعاية بعد صراع مع نحو خمسين شخصًا أرادوا احتضانها، حيث ظلّت تحت رعايتي حتى بلغت الآن سبعة أشهر”.
وقد حصلت أبو ختلة قبل أربعة شهور على كتاب رسميّ من قبل وكيل وزارة الصحة د.يوسف أبو الريش يفيد بالموافقة على كفالتها للطفلة ورعايتها حتى انتهاء العدوان الغاشم على قطاع غزة.
وخلّفت الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة 17 ألف طفل ممن فقدوا أحد والديهم أو كليهما، وهو ما يضرب عرض الحائط كل المواثيق الدولية التي كفلت الحماية للمدنيين ومن بينهم الأطفال والنساء، وتسبب بوقوع كارثة إنسانية في قطاع غزة، وصدمات نفسية لمئات آلاف الأطفال.
عودة إلى الحكيمة آمال التي تكمل: “في بداية رعايتي لملاك رفضت أن يعرف أحد حكايتها أو ظهورها على وسائل الإعلام، لكن مع الوقت أدركت أن هذا ضروري لمصلحتها وغيّرت وجهة نظري، كي لا تبقى مجهولة الهوية”.
تحلم الحكيمة آمال بأن تكبر طفلتها ملاك وتترعرع وهي تحت رعايتها وتعرف أهلها ومصيرهم، فهي محرومة من أبسط حقوقها وهو معرفة اسمها الحقيقي وتاريخ ميلادها واسم والديها وعائلتها.
وعن تجربة رعاية طفلة، تحكي الحكيمة آمال أن طول عملها في قسم الحضانة منحها التجربة التي ساعدتها على التعامل مع ملاك، ويملؤها الشعور أن وجود الطفلة استجاب لغريزة الأمومة داخلها، فهذه الطفلة لها وكأنها طفلتها.
وتشرح: “خلال وجودي في البيت هي تحت رعايتي المباشرة، وأثناء دوامي تتكفل بذلك عائلتي وإخواني وأطفالهم، الكل فرحٌ بها ويشعرون إنها هدية الله للبيت”.
لكن آمال عادت وقطّبت حاجبيها وهي تتمتم: “يصيبني الجزع كلما تذكّرت أن رعايتي لها مرهونة بتوقّف العدوان، تعلّقت جدًا بالطفلة ومن الصعب عليّ التفكير بالاستغناء عنها”.