مها السرسك.. طفولةٌ غيّبتها نيرانُ النزوح
مها السرسك.. طفولةٌ غيّبتها نيرانُ النزوح
دير البلح/ خديجة مطر:
بدت علاماتُ التعب واضحةً على قسماتِ وجه الطفلة مها السرسك (15 عامًا) وهي تنهمك في غسل ملابسَ لنازحين تحت أشعة الشمس الحارقة في مستشفى شهداء الأقصى بمدينة دير البلح وسط قطاع غزة!
تجلس الطفلة إلى جوار خيمة عائلتها المصنوعة من قطع النايلون، وتحت أشعة الشمس الحارقة تزاول عملها يوميًا من أجل إعالة أسرتها، وحدها تكفّلت بحَمل هذا الهمّ.
تقول الطفلة: “تغيّرتُ تمامًا خلال هذه الشهور، من طفلة عادية أذهب لمدرستي وأتابع تعليمي، إلى إنسانة مطلوب مني إعالة أسرة كاملة وحدي”.
نزحت الطفلة السرسك مع عائلتها يوم 11 أكتوبر 2023، من منزلها في منطقة السدرة بحي الشجاعية شرق مدينة غزة، برفقة والدتها وأشقائها الثمانية، وبينهم شقيقتان مريضتان، مرّت العائلة عبر طريق صلاح الدين شرق قطاع غزة سيرًا على الأقدام، ليستقر بهم الحال في مستشفى شهداء الأقصى بمدينة دير البلح وسط قطاع غزة، رفقة آلاف النازحين، وداخل خيمة مستعارة من أحد الأقارب.
تدقق الطفلة النظر في قميص أبيض بين يديها، تضيف المزيد من الصابون و(تفركه) جيدًا بين يديها، فلا مجال إلا للتنظيف الدقيق لملابس الزبائن، بينما تكمل قصتها: “وصلنا بجيوبٍ فارغةٍ وأمعاءٍ خاوية، وكان عليّ البحث عن مهنة أعيل بها أسرتي، فأنا أكبرهم وأمي يجب أن تبقى برفقة شقيقاتي”.
يبدأ نهار مها بدائرة مغلقةٍ من الدوران يمينًا ويسارًا، تنهض صباحًا بحثًا عن المياه التي لا تتوفر أحيانًا داخل المستشفى، فتُضطر لجلبِها عبر جالونات من الخارج، وبعدها تبدأ بجمع ملابس من النازحين والعائلات المجاورة لخيمتهم، مقابل الحصول على أجرٍ بسيط يسهم في الإنفاق على عائلتها.
تعقّب: “جهد يوم كامل لن يتجاوز أجره 50 شيكلًا، بالكاد تكفي لتأمين احتياجات أساسية وحفاضات شقيقاتي، بينما أحاول ادّخار القليل من المال من أجل شراء خيمة يصل سعرها إلى 2000 شيكل كحدٍ أدنى”.
وتعاني اثنتان من شقيقات مها من إعاقة، بينما أجرت إحداهما وهي مايا (12 عامًا) عملية قلب مفتوح وتتلقى رعاية خاصة، أما الأخرى حبيبة فهي فاقدة للبصر.
بعيون دامعةٍ ووجهٍ شاحب تستذكر مها كيف كانت تعيش حياةً عادية قبل الحرب، تقول: “كنت أعيش حياة لطيفة، أمكث مع أسرتي، أخرج لقضاء أوقات جميلة مع صديقاتي، أتابع دراستي وأحبّ مدرستي، أشياء طبيعية لفتاة في عمري، كل هذا أصبح ذكريات وتغيّرت حياتي، أشعر أنني أكبر من عمري بكثير، فلا تشابه بين ملامحي الحالية وملامحي السابقة، حتى وجهي تغيّر، أثقلني الهم لتأمين احتياجات أسرتي”.
وتُعدُّ مها التي بالكاد بدأت المرحلة الثانوية، واحدة من بين عشرات آلاف الطلبة الفلسطينيين الذين فقدوا حقهم في متابعة الدراسة بفعل العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، والذي دخل شهره الثامن، في سابقة غير معهودة في العدوانات على قطاع غزة.
ولم تكن تجربة العمل على غسل ملابس الزبائن الأولى بالنسبة لمها التي تمارس هذه المهنة منذ خمسة شهور، تقول: “قبلها كنت أعمل في بيع الخبز الجاهز، أصطف في الطابور لساعات لأحصل بعدها على فائدة مادية لا تتجاوز 60 شيكلًا، لا تكفي شيئًا مقابل الغلاء الفاحش الذي نعيشه، بعدها اضطررت لحمل جالونات مياه للنازحين مقابل ثلاثة شواكل، ثم بدأت العمل بغسل الملابس”.
تتساءل الطفلة بحسرةٍ عن الاتفاقيات الدولية الخاصة بالأطفال التي قرأت عنها كثيرًا، تقول بحنق: “طفولتنا تنتهك ليلًا ونهارًا، نهاري مليئًا بالويلات وطفولتي غيبتها نيران القصف والنزوح”.
في رحلة البحث عن الأمان؛ نجحت مها وعائلتها في العثور على مأوى داخل مستشفى شهداء الأقصى، لكن القصة لم تكتمل، تقول: “في بداية نزوحنا مكثنا في خيمة من النايلون والأخشاب، وعند تقدّم الجيش الإسرائيلي لمناطق النصيرات والزوايدة اضطررنا للنزوح إلى رفح، ضاعت منّا شقيقتي حبيبة فهي فاقدة للبصر، وعانينا لأيام في البحث عنها، بعدها قررنا العودة هنا رغم الخطر والقصف”.
بصوتٍ خنقته الدموع تختم: “أسعى لتوفير ثمن خيمة، فنحن مهددون بالطرد يوميًا لأن الخيمة ليست لنا، على مدار هذه الأشهر جمعت بعض المال، لكن الأمر يفوق قدرتي، لم يكن لدينا فراش ولا أواني، كل شيء هنا استعرناه فقد نزحنا لا نملك شيئًا، وخرجنا من تحت الركام بأعجوبة، لا نملك حتى ملابس”.