صاروخ إسرائيلي سرق النور من عيني محمد
رفح- دعاء برهوم:
“نفسي أرجع أشوف وأشتغل زي أول”، كلماتٌ ممزوجة بغصّة وما يشبه الدمعة نطقها الجريح محمد طباسي (36 عامًا)، الذي سلبه الاحتلال الإسرائيلي بصره خلال قصف منزلٍ مجاور لبيته!
بين زوجته وطفليه، يجلس محمد محاولًا تمرير يده على رأس طفلته الرضيعة، محاولًا ربما تذكّر ملامحها التي سيُحرم رؤيتها للأبد حين تكبر شيئًا فشيئًا، لن يتمكّن محمد بعد اليوم من حملها والخروج بها مع الأصدقاء تمامًا كما كان يفعل مع طفله الأول.
يسكن محمد حي تل السلطان غرب مدينة رفح جنوب قطاع غزة، كان حتى لحظة الانفجار يعمل سائقًا لدى أحد مصانع قطاع غزة، ما يعني أنه بفقدان البصر فقد أيضًا مصدر دخله.
قطّب محمد حاجبيه، وبصوتٍ متقطّعٍ يائسٍ بدأ الحديث حول ما جرى له: “يوم 22 أكتوبر 2023، كانت عائلتي مجتمعة لتعبئة المياه التي وصلتنا بعد عشرة أيام من الانقطاع، وإذ بانفجارٍ يهزّ المنطقة، لم أعرف بعدها ماذا جرى”.
كان محمد يقف على شرفةِ منزله حين وقع الانفجار، وإذ بنار الصاروخ تلتهم بؤبؤ عيني محمد، سقطت الأولى أرضًا والثانية نزفت دمًا، دون أن يستطيع تحريك جسده الملقى على الأرض وفوقه كومة من الركام.
يحاول محمدٌ البكاء دون أن يتمكّن، نهش الحزن ملامح وجهه حتى بدا أضعاف عمره الحقيقي، ما زال لا يصدّق أنه لن يستطيع الإبصار مرّة أخرى، آخر ما وقعت عيناه عليه هو مشهد القصف وبيت سوّي بالأرض، مع رائحة بارود وأصوات صراخ من كل الجهات.
يتابع: “مكثت في المستشفى عدة أيام، كانت حالتي حرجة، أستمع لمن حولي يتحدثون، صوت أبي، صوت أخي الوحيد، سألت عنهم فأخبروني انهم مصابون بإصاباتٍ بالغة، وطلبوا مني الدعاء لهم، عرفت بعد أيام انهم استشهدوا ومعهم ابني آدم و11 فردًا آخرين من عائلتي”.
بحشرجة قبضت على حنجرته يكمل: “حرموني من سندي الذي أتكئ عليه في هذه الدنيا، وأشدّ به عضدي، أخي محمود، ومن مهجة فؤادي المدلل آدم، وعمود البيت أبي، فقدت ثلاثتهم وأصبحت بحاجةٍ للمساعدة”.
أطاح الصاروخ بكل قوى محمد الجسدية، فحتى دخول المرحاض بات بحاجة إلى مساعدة زوجته، يعقّب: “تساعدني كأني طفل في عامه الأول، لا أعرف شيئًا إلا بمساعدتها بعد أن فقدت بصري وأظلمت الدنيا في عيني منذ سبعة شهور”.
محمد الأب، سرق الاحتلال بصره، وحرمه حقّ التأمّل في ضحكات صغاره أحمد ومحمود، وسلبه حق تأمّل ملامح طفلته “سيلا” التي أبصرت النور قبل شهرٍ ونصف، يتحسس وجهها ويكاد يرسم في خياله صورة عن ملامحها الصغيرة، يتنهد بحسرة قائلًا: “نفسي أشوفها وهي بتكبر يوم بيوم”.
بالرجوع قليلًا إلى المستشفى، يبين محمد أنه لم يتلقى العلاج الكامل، فالغرفة التي مكث فيها كانت مكتظة بأسرّة مصابين لم يتلقوا العلاج اللازم بسبب النقص الحاد في الأدوية، ومع تزايد أعداد المصابين بسبب تواصل حرب الإبادة على قطاع غزة منذ 7 أكتوبر 2023، لم يأخذ أحد حقه في العلاج.
حول معاناته داخل أروقة المستشفيات يكمل: “لا يوجد طبيب مختص لحالتي، فقط كنت أحصل على قطرة للعين، ومسكّن للألم طيلة فترة مكوثي بالمستشفى”.
يذكّر محمد بأنه منذ إصابته في الأسابيع الأولى للحرب، حتى اللحظة، لم يحصل على موافقة للسفر واستكمال علاجه في الخارج، فالاحتلال يمعن في تعذيب الفلسطينيين بكل الأشكال، فحرمان الشباب من السفر للعلاج إلا بتنسيق “باهظ التكلفة ماليًا”؛ يقف عائقًا أمام شفاء الكثيرين.
حول انعكاس الإصابة على حياته، يقول: “أصبحت شبه منعزلًا، مقيّد الحركة بسبب فقدان البصر، كل خطوة أحتاج المساعدة فيها، أنا بلا سند ولا أريد أن أكون حِملًا ثقيلًا على أحد”.
يتمنّى محمد أن يحصل على حقه بالسفر والعلاج بالخارج، ليستطيع إكمال حياته وليكون السند لعائلته التي أصبحت بلا سند وتعتمد على أبناء الجيران.
انقلبت حياة محمد رأسًا على عقب، فلا شيء يعزّي قلوبهم المكلومة على رحيل الابن والأب والجد والعمل وفقدان البصر، إلا بالإسراع في سفره للعلاج ليستطيع أن يكون عونًا لعائلته.