الوساطة والمصالحة المجتمعية في غزة: عدالة بديلة وسط شلل القضاء الرسمي
الوساطة والمصالحة المجتمعية في غزة: عدالة بديلة وسط شلل القضاء الرسمي
خان يونس – أنغام يوسف
منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، أدّت الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة إلى شلل شبه كامل في منظومة العدالة؛ فالمحاكم مدمّرة، والأجهزة الأمنية والنيابة العامة معطلة، والقضايا معلقة, ما ترك آلاف النزاعات بلا مرجعية قانونية.
مع هذا الفراغ برزت الوساطة والمصالحة المجتمعية ــ كآليتان من الآليات الفعالة لحل النزاعات, استثمرت فيها وحدات المساعدة القانونية للجمعيات الأهلية الحقوقية ورجال الإصلاح والوسطاء المجتمعيون, فأصبحتا بريق الأمل الوحيد لرد الحقوق، ورافعتان لتعزيز السلم الأهلي في قطاع غزة.
المحامي محمود الهور، منسق وحدة المساعدة القانونية في الجمعية الوطنية للديمقراطية والقانون، عرف لنا الوساطة والمصالحة المجتمعية على أنهما آليتان فاعلتان ومساندتان للقضاء الرسمي -وحالياً أصبحتا بديلتان عنه لحين عودته- لحل النزاعات عبر أطراف محايدة، منهم القانونيين ومنهم المصلحين والوسطاء المجتمعيين, تتسمان بالمرونة والسرية وقلة التكلفة ويكون الهدف منهما تقريب وجهات النظر وخفض التوتر ومنع العنف، وصولاً لحلول وسطية أو تصالحية بين المتخاصمين ولا سيما في القضايا الأسرية والعائلية”.
ويضيف الهور :”الحرب دمّرت بنية قطاع العدالة الرسمية فتركت المواطنين يواجهون خلافاتهم بلا جهة ضابطة، فإزدادت النزاعات واستُغلّ الضعفاء. وهنا ظهرت الوساطة كضرورة، لا كخيار , وأوضح أن اللجوء للوساطة والمصالحة لا يقتصر على المسائل المدنية والجزائية؛ ففي غياب السلطتين القضائية والتنفيذية تضطر اللجان للتدخل في قضايا حساسة كقضايا الميراث والأحوال الشخصية كالطلاق والنفقة والحضانة ، وقد أثبتت التجربة مرونتها وسرعتها مقارنة بالمحاكم.
وأضاف أن تعطل قطاع العدالة الرسمي ترك آثاراً سلبية على المواطنين أهمها تعطيل الفصل في القضايا وتراكم النزاعات ما أدى للجوء البعض لاستخدام القوة والعنف , ومن هنا برزت الحاجة الملحة لحل النزاعات بالطرق البديلة بما لها من مميزات كالمرونة والسرية والسرعة وقلة التكلفة , وبين أنه ورغم التحديات المتمثلة في قلة الكوادر المؤهلة وغياب الحماية القانونية للوسطاء والمعيقات اللوجستية والأمنية إلا أنها أثبتت فعاليتها ونجاعتها وهذا ثابت من قصص النجاح الموجودة لدى المؤسسات العاملة في الوساطة والتحكيم بين المتخاصمين .
وذكر الهور أن من بين قصص النجاح حل مشكلة على ارث أرض مقام عليها منزل مدمر , وفي حالة آخري جري حماية امرأة معنَّفة فوثّقت اتفاقًا يكفل نفقتها وحضانتها لأطفالها دون حاجة لانتظار عودة عمل المحكمة, وبين أن العديد من المؤسسات الشريكة, لديها العديد من قصص النجاح المماثلة لاسيما في النزاعات حول ملكية العقارات والحق في التعويض وحدود المباني المدمرة والأراضي , كما يبرز دورها الهام في قضايا الأحوال الشخصية وحقوق المرأة والطفل الشرعية .
وأضاف أن المؤسسات الأهلية لعبت دوراً هاماً ومحورياً وكانت أول من بادر خلال فترة الحرب لحث المواطنين لحل خلافاتهم بالطرق البديلة , كما عملت على تدريب العديد من المحامين والوسطاء المجتمعيين على أساليب حل النزاعات بالطرق البديلة , وتنظيم حملات توعوية لكافة شرائح المجتمع الى جانب توفير الدعم النفسي والقانوني لاسيما خدمة الوساطة من خلال وحدات المساعدة القانونية التابعة لتلك المؤسسات .
وفي السياق يشير القاضي العشائري سليم أبو شلَّط (من مدينة النصيرات) إلى أن الصلح العشائري غطّى فراغ القضاء بنسبة كبيرة، غير أن قضايا الميراث ما زالت تتعثر لغياب الأوراق الرسمية. ويستشهد بقضية ورثة سجّل أحدهم الأملاك باسمه منفردًا، قبل أن يتدخّل رجال الإصلاح لإقرار تسوية عادلة بعد سنوات من الخلاف.
ويرى أبو شلَّط أن الفلتان الأمني وصعوبة التنقل وانتشار السلاح أبرز عوائق عمل لجان الإصلاح، “لكن غياب الشرطة التنفيذية هو المعضلة الكبرى”.
ويلخص القاضي العشائري سليم أبو شلَّط التحديات والعوائق أمام عملهم في ثلاث نقاط رئيسة الأولي أنه في القضايا الجنائية ونتيجة لغياب النيابة والأمن ومركز الشرطة يجعل الفصل فيها شبه مستحيل، ما يدفع بعض الأطراف إلى الانتقام الذاتي. فيما يعد عدم قدرة لجان الوساطة على إجبار المتنازعين لقبول الحلول يحدّ من فعاليتها في حالات التعنّت ويتسبب بتطور الأوضاع إلى مراحل صعبة في النزاع. وختم القاضي أبو شلَّط ازدحام المخيمات والنزوح وتزاحم العائلات في مناطق ضيقة يصعّب مهمة الوصول وحل النزاعات في وقت مناسب ويشكل بيئة خصبة لاتساع رقعة النزعات.
هذا وتعمل منظمات المجتمع المدني الفلسطيني وفي مقدمتها مركز التنمية والإعلام المجتمعي على تدريب محامين وسطاء ومصلحين اجتماعيين على تقنيات وأساليب الحوار وتوثيق الاتفاقيات، إلى جانب حملات توعية بأهمية البدائل السلمية ويقول المحامي محمد السقا منسق مشروع نشر العدالة لدى المركز :” الوساطة والمصالحة أصبحتا أدوات رئيسية لسدّ الفراغ القضائي والقانوني، وتثبت يوميًا أنها حائط صد لمنع الانهيار المجتمعي”.
ورغم القيود، أثبتت هذه الآليات جدواها كعدالة بديلة تحافظ على السلم الأهلي وتخفف الاحتقان، في انتظار عودة المؤسسات الرسمية. وبين نجاحات تُسجَّل يوميًا وأزمات تتطلب قوة تنفيذية، يبقى الرهان على استمرار هذه الجهود وتعزيزها بالشراكات والدعم لضمان عدم ضياع الحقوق تحت وطأة الحرب.