آمال وحلا.. رحلة الأمل بين الاعتقال والضياع والنزوح

قصة أم مكلومة “حط السلاح براسي وحكالي بطخك وبطخها

دير البلح / هيا بشبش : رأيتُها يحملها غريبٌ يمشي أمام عيناي وأنا لا أستطيع الحُراك مكبّلةً أجلس على الأرض – قرفصاء – أنتظر مصيرٌ خفي، مع مجموعة من المعتقلين، نظرتُ لطفلتي، أشارت لي بيدها فصرختُ بنتي بنتي، ليوجّه لي أحد جنود الاحتلال الإسرائيلي السلاح ويصرخ: (اسكتي بطخّك وبطخّها) فصمتُّ وأكملت البكاء”.

بهذه الكلمات تحدثت آمال صالح (19 عامًا) من مدينة جباليا شمال قطاع غزة، وهي تحكي كيف فقدت طفلتها على حاجزٍ للاحتلال الإسرائيلي، عندما احتجزها نهارٌ كامل، حين حاولت النزوح إلى جنوب القطاع.

آمال: هربت من الموت بجباليا وضيعت بنتي على الحاجز بعد ما اعتقلوني أنا وأخويا

تقول آمال: “هربت من الموت بجباليا وضيعت بنتي على الحاجز بعد ما اعتقلوني أنا وأخويا”.

تحتضن آمال طفلتها حلا (عام و8 شهور)، وهي تروي تفاصيل ما مرّت به منذ بدء الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، التي شنّها الاحتلال يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023م وما زالت مستمرة.

كانت آمال تسكن مع زوجها وأسرته في “العلاوين” كما يسميها سكّانها بمدينة جباليا شمال قطاع غزة، حذّر جيش الاحتلال البيت المقابل لبيتهم بالقصف، فلجأت هي وزوجها محمد نبهان (27 عامًا) إلى منزل عمة زوجها الواقع في منتصف الحارة، كان ذلك بتاريخ 20 نوفمبر/تشرين الثاني 2023م، تجمّع نحو 20 شخصًا من العائلة، كان زوج آمال وعائلته في غرفةٍ واحدة قرب الباب، وابنة عمته فاطمة وأسرتها المكوّنة من 8 أفراد في الغرفة الشمالية.

آمال: استشهدت فاطمة وزوجها وأولادها، حتى طفلها اللي كان بيلعب معنا أخدته أمه ترضعه واستشهد معها

صمتت قليلًا وأكمَلت: “بعد صلاة المغرب انتهيت من إطعام طفلتي حلا، هممت بوضع الطبق الفارغ في المطبخ، عندما وصلت الباب حدث انفجارٌ حوّل المكان إلى ركام”.

تعرّض المربّع السكني الذي تسكنه لقصفٍ من طائرات الاحتلال استشهد بسببه (50) شخصًا لأكثر من عائلة، تضيف آمال: “استشهدت فاطمة وزوجها وأولادها، حتى طفلها اللي كان بيلعب معنا أخدته أمه ترضعه واستشهد معها، وأصيب باقي من كان بالبيت، هربنا حفاة القدمين إلى مدخل الحارة، لنتعرّض للقصف مرةً أخرى حين استهدف طيران الاحتلال منزل قريب لعائلة قدورة وهرع زوجي وإخوته لمساعدة من بقي في العائلة حيًا”.

لجأ الناجون إلى منزل أحد أقاربهم بالمنطقة، ثم انتقلوا إلى مدرسة الرافعي، كانت آمال على تواصل مع أهلها النازحين إلى مدينة دير البلح وسط قطاع غزة، مثلما نزح مئات الآلاف من سكّان شمال القطاع يوم 13 أكتوبر/تشرين الاول 2023، حين أجبر الاحتلال المدنيين الفلسطينيين على ذلك في مخالفة لاتفاقية جنيف الرابعة التي تحظر التهجير القسري للمدنيين.

طلب أهل آمال من ابنتهم القدوم مع شقيقها أدهم (28 عامًا) إلى الجنوب، وبالفعل نزحت يوم 25 نوفمبر/تشرين الثاني 2023م، ورفض زوجها النزوح وبقي في جباليا.

عادت آمال للحديث: ” تحركنا الساعة 7 صباحًا، والساعة 8 وربع وصلنا الحاجز المقام من جيش الاحتلال الإسرائيلي لتفتيش النازحين، كان في ازدحام، وقفنا ننتظر، صرخ الجندي (إم الشاة الحمرا والجلباب الأسود)”.

“لم أكن أعلم أنني صاحبة الألوان المذكورة، نبّهني أخي، وأخذ صغيرتي حلا، حملها وهي تبكي، كان عمرها عام واحد فقط، توجهّت والرعب يملأ أوصالي إلى المكان الذي أشار إليه الجنود، أجلسوني القرفصاء وكبلوا يداي وكنت أنتظر مصير مبهم”.

هنا يكمل أدهم: “بعد دقائق صرخ الجندي (اللي حامل طفلة حطّها على الأرض وتعال) أعطيتها لامرأة خلفي، وتوجهت للجندي، لكن الجندي طلب من السيدة القدوم وأعطت الطفلة لابنها وعمره (12 عامًا)، هناك رأيت أختي مكبّلة، صُدِمت عندما رأتني، كنا نجهل مصيرنا ومصير الصغيرة التي أصبحت في أيدي غريبة”.

مرّت الساعات ثقيلة متعبة، تصف آمال: “كنتُ أتابع برعبٍ ما يدور كانوا يأمرون بعض النساء بخلع الحجاب، والتوجه للباب الأخضر، هناك ثلاث أبواب، أخضر، أحمر، أزرق، لا أعلم ماذا تعني هذه الألوان، لكن أغلب من يتوجه للون الأخضر يتعرض للتعذيب، كانت تخرج النساء منه معصوبة الأعين وبلا ملابس، مكبلات اليدين وعليهن أثر التعذيب”.

أشارت آمال لجلبابها وقالت: “هذا هو ما كنت ألبسه، لقد أمرنا الجيش أن نضع كل ما نحمل على الأرض، لذلك لم تنجو الملابس، الساعة السادسة مساءً أمر جيش الاحتلال أخي بالتوجه إلى الجنوب، لم يصدّق إنه نجا، أشرت له بالبحث عن طفلتي، لم يفهم ما أعني، وتوجه إلى الخارج، فرغ المكان ولم يبق سواي وعشرة نساء، جنود الاحتلال كانوا ياكلوا ويرقصوا وبعدها طلعوا على تلة جنب الحاجز ووجهوا قناصتهم علينا حوالي 10 دقائق”.

وتنصّ اتفاقية جنيف الرابعة الخاصة بحماية المدنيين وقت الحرب، في مادتها (147) على حظر اقتراف أفعال ضد المدنيين ومنها القتل العمد، التعذيب، والحجز غير المشروع، وتعمد إحداث آلام شديدة أو الإضرار بالسلامة البدنية أو بالصحة، وضمنت حماية خاصة بالأطفال وقت النزاع، كما نص قرار مجلس الأمن (1325) في المادة (10) على دعوة أطراف النزاع لاتخاذ تدابير خاصة لحماية النساء والفتيات.

حبست آمال أنفاسها وهي تشاهد النساء كل منهن لها أسرة تنتظرها، تقول: “توقعنا أنها النهاية، مرّت الدقائق العشر كأنها 10 سنوات، بعدها أمرنا جيش الاحتلال بالتوجه نحو الجنوب، كنت أفكر في صغيرتي، طمأنتني سيدة كانت تجلس بجانبي من عائلة المبحوح إن أخي أعطاها لها وهي أعطتها لابنها وأن إخوتها بانتظارها بعد الحاجز، لكن السيدة لم تخرج من المعتقل حتى الآن”.

عودة لأدهم الذي كان ينتظر أخته بعد الحاجز الذي فرغ من الجميع، إلا بعض سائقي التاكسي والكارات، عندما خرج باحثًا عن حلا، سأل الجميع عنها ولم يجدها، قال له أحدهم هناك رجلٌ كان ينتظر خروج أهل الطفلة وهو يحملها.

يقول أدهم: “علمت لاحقًا إن ابن السيدة بعد خروجه من الحاجز وضع الطفلة على الأرض وركض لأخواله ونسي أمر الطفلة، رجل غريب أحد الطفلة وانتظر خروج أهلها وبعدها مشي”.

الساعة السادسة والنصف، خرجت آمال من الحاجز، استقبلها أدهم بيدين فارغتين، يقول: “سقطت آمال على الرصيف مغشيٌ عليها، عندما لم تجد طفلتها معي أيقنت أنها ضاعت، توجهنا إلى كلية فلسطين التقنية في دير البلح، والتي لجات لها عائلتنا عند نزوحها في 15 نوفمبر/تشرين الثاني 2023م”، استقبلت العائلة الأخوين بالدموع، فليس هناك من فرحة.

سرعان ما توجهت آمال إلى مستشفى شهداء الأقصى بحثًا عن طفلتها، تقول: “لم يبق مكان إلا وسألت عنها فيه، كانت ليلة قاسية، حضنتُ ملابس طفلتي وبكيت حتى الصباح، لم أغمض عيناي لحظة، منذ الساعة السابعة صباحًا بدأنا أنا وأدهم عملية البحث من جديد، في جميع مخيمات المحافظة الوسطى، قررت العودة للحاجز، رغم خطورة المكان، كنت على يقين أني سأجدها”.

في طريق صلاح الدين وبالتحديد مدخل مخيم البريج سأل أدهم أحد سائقي التاكسي عن الصغيرة، ليجيبه “صديقي وجد طفلة تحمل هذه المواصفات سأتصل به وسأعلمه، فأخبره أدهم أنهم متجهين للحاجز”.أما آمال التي تملّكها اليأس، عند وصولها قرب الحاجز، جلست على الرصيف منهكة، فتوقّفت أمامهم سيارة تاكسي وسألهم سائقها: “انتو اللي بنتكم ضايعة، بنتك؟ هيها في خانيونس”، أخرَج هاتفه من جيبه، وأشار إلى صورةٍ فيه وقال :” هاي بنتك؟”.

فرحةٌ عارمة اجتاحت كيان آمال وشقيقها أدهم، صعدوا معه إلى السيارة وتوجهوا إلى خانيونس، بعدما استبعدت أن تصل إلى هناك، وفي الطريق أخبرهم أنه شاهدها بعد الحاجز وحيدة وضعها طفل صغير وذهب، انتظر خروج ذويها من الحاجز، ولكنه فقد الأمل بعد إغلاق الحاجز، أحضر لها حليب صناعي ولكنها لم تتقبله ونامت مع والدته.

مخلص العموري (22 عامًا) من مدينة خانيونس، سائق تاكسي علم من صديقه إن هناك من يبحث عن الطفلة التي وجدها قبل يوم تحمل نفس المواصفات، فتوجه مسرعًا إلى الحاجز لعله يجدهم وبالفعل كانوا هناك، عادت حلا والتي صدفةً أطلق عليها مخلص نفس الاسم دون أن يعلم اسمها الحقيقي.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى