أم عمر وأبناؤها من ذوي الإعاقة … معاناة مخبأة وسط متاهة الحرب
رفح- هديل الغرباوي:
كانت أم عمر الزهارنة تنقل خطواتها الخائفة بين الأزقّة والشوارع المدمّرة؛ تحت سماءٍ استباحتها مقاتلات الفانتوم والأباتشي والكواد كابتر؛ التي ترصد فرائسها على طول الطريق المؤدي إلى وادي غزة، الذي بات بوابة العبور إلى جنوب القطاع!
تتناوب المسكينة على جرِّ عربات أبنائها الأربعة وهم من ذوي الإعاقة الجسدية والذهنية، بجسدٍ هزيلٍ خارت قواه من قلّة النوم والطعام، وبحذاءٍ مزّقته الشظايا واخترقته حصى الدرب العسير، تركض بين ابن وآخر تدفع عرباتهم كي لا يضّلوا الطريق، وهكذا حتى بلغت وادي العذاب “وادي غزة” المعروف باسم “محور نتساريم”.
في التفاصيل، فقد أعلنت إسرائيل الحرب على قطاع غزة يوم 7 أكتوبر، وارتكبت مجازر راح ضحيتها آلاف المواطنين بعدما قصفت بيوتهم فوق رؤوسهم، ويوم 13 أكتوبر، أجبرت سلطات الاحتلال مواطني سكان شمال قطاع غزة على النزوح إلى جنوب وادي غزة، في تناقض مع اتفاقية جنيف الرابعة بشأن حماية المدنيين وقت الحرب، والتي تحظر النقل القسري للمدنيين والاعتداء على المدنيين وممتلكاتهم.
كحال الآلاف غيرها، فضّلت أم عمر البقاء في مدينة غزة حيث تسكن، لكن سوء الأحوال وانتشار المجاعة وخوفها على أبنائها دفعها للنزوح أسوة بمن سبقوها، ليستقر بها الحال في خيمةٍ بمدينة رفح، جنوب قطاع غزة.
تمسح السيدة الخمسينية دموعها وهي تروي: “قبل شهرٍ ومع ساعات الصباح، وضعت أبنائي على العربات وقمت بربط هواتفهم النقّالة بهم كي لا تضيع أو تُسرق، وهي التي تحتوي ألعابًا لإلهائهم، كنت -بالكاد- ألتقط أنفاسي اللاهثة، فيما تنهار البنايات من حولي جراء نسف الاحتلال للمربعات السكنية، وأصوات الانفجارات المدوّية أرعبت أبنائي الذين كانوا يرتجفون خوفًا”.
وصلت أم عمر ومعها أبناؤها الخمسة إلى نقطة التفتيش، وبعدما سمح الجنود لها بالعبور، بدأت طائرة من طراز كواد كابتر بإطلاق النار صوبهم وكأنها تتعمد إيذاءهم كما تقول أم عمر.
أم عمر، هي سيدة توفي زوجها قبل سنوات، بعدما أنجبت منه نصف دستة من الأبناء (عمر ونرمين وهما متزوجان ولديهم عائلات) أما (ابتسام، عبد الرحمن، إبراهيم، وآية) فهم منذ ذوي الإعاقة الذهنية والجسدية، ويعانون من التشنج ونوبات الصرع.
خلال وجودها في غزة، اضطرت أم عمر للنزوح عدة مرات بعد تدمير منزلها المؤجّر، بينما نزح ابنها عمر مع عائلته إلى مدينة رفح، لتبقى وحيدة مع أبنائها الأربعة، حتى قررت أخيرًا الالتحاق بعمر النازح إلى خيمة في رفح.
في المخيم الصغير تراصت العديد من الخيام التي تحمل شعارات وأعلام البلدان التي تبرّعت بها، حيث نُصبت الخيمة القطرية إلى جوار الإماراتية والسعودية وغيرها، بينما تعيش أمر عمر داخل خيمة من القماش المهترئ لا تحمل شعار أي بلد.
تنظر أم عمر إلى أبنائها بحسرةٍ وهي تكمل: “كنت أنجب أبنائي بلا علّة، حتى يبلغوا عامهم الرابع تظهر عليهم التشنجات ونوبات الصرع والصراخ والإغماء، وأبدأ رحلة علاجات بين غزة ومصر والقدس، طرقت أبواب الأطباء وحتى الشيوخ وقرص النحل وغيره؛ دون جدوى ودون اهتمام من المؤسسات المعنية بذوي الإعاقة”.
أثناء الحديث مع أم عمر، ضربت طائرات حربية إسرائيلية هدفًا قريبًا من خيمتها، وانتفض أبناؤها الأربعة رعبًا، وبدأ إبراهيم بالصراخ الهستيري وهو يردد: “طلعوني من هنا بدهم يقتلوني، طلعوني بسرعة”، فما كان من أمه إلا أن احتضنته وأجهشت بالبكاء.
ومن وسط دموعها تكمل: “مع بداية الحرب ازدادت حالتهم سوءًا، حيث باتوا يصرخون عند سماع أصوات الانفجارات الشديدة والقريبة، والتي لا تتوقف وتلاحقنا في كل مكان، يرجفون وتصطك أسنانهم ويتبولون ويتغوّطون على أنفسهم من شدة الرعب داخل الخيمة التي لا تتسع لنا، تقدمت بعشرات الطلبات للمندوبين للحصول على خيمة مستقلة كي أتمكن من العناية بهم بلا جدوى”.
ناشدت السيدة مرارًا أن يتم منحها خيمة مستقلة، تستطيع فيها الاعتناء بأبنائها الذين يتبولون ويتغوّطون على أنفسهم، وهي بحاجة إلى (خزان) كامل من المياه كي تغسل ملابسهم، وضوءًا لإنارة الخيمة، فربما يُشعرهم الضوء ببعض الأمان ويتوقفوا عن الصراخ، كما تحتاج إلى مرحاض مستقل نظرًا لخصوصية حالة أبنائها، وهو ما أجبرها على وضع دلو داخل الخيمة لقضاء الحاجة فيه.
تبكي السيدة وهي تكمل: “الجزء الأصعب هو أن أبنائي بعد قضاء حاجتهم، يحملون الدلو ويلقون فضلاته داخل الخيمة دون وعي منهم، وتلتصق الفضلات بزوايا الخيمة وعلى الفراش، وربما الأواني والملابس، وهو أمرٌ ضاعف من معاناتي وهدّني وأشقاني، ولولا إيماني بالله لفقدت عقلي”.
دلو الفضلات أصبح كابوسًا لأم عمر التي تتستر برداء الليل، كي تخرج من خيمتها تلقي محتوياته في مكب النفايات، بينما تزداد معاناة السيدة بسبب قلة قدرتها على تلبية احتياجاتهم اليومية.
وبينما الأحوال هكذا، كانت طائرات الاحتلال تلقي منشورات في قلب مدينة رفح تطالب سكّان تلك المنطقة بالإخلاء والنزوح إلى مناطق أخرى، وربما في قادم الأيام تُجبر أم عمر على نزوح جديد، لتسطّر معاناتها في مكانٍ آخر.