حكايتي مع ليالي الاجتياح المرعبة
غزة – وردة الدريملي :
لم أصدّق أنني ما زلت على قيد الحياة، بعد تجربة مميتة عايشتها خلال الاجتياح الإسرائيلي لحي الزيتون شرق مدينة غزة، حيث أسكن وعائلتي.
منذ إعلان جيش الاحتلال الإسرائيلي الحرب على قطاع غزة، وإجبار مئات الآلاف من سكان شمال قطاع غزة على النزوح، رفضتُ وعائلتي، إلى جانب مئات آلاف آخرين النزوح، لنعيش تجربة لن تمحوها الأيام من قلوبنا ما حيينا.
كنت أردد كل ليلة أنه حُكم علينا بالموت، لا أريد أن أموت بالقصف، الكثير من الأيام الصعبة مرّت وسيخرج علينا نهارٌ آخر، والكثير من العبارات رددتها تحت وقع القصف في حي الزيتون.
ليالي الاجتياح أكثر رعبًا من نهارها، فالليل فيها مخيفٌ، مرعب، مقلق، مفزع، موحش، نلتزم فيها البيت، أو بمعنى أدق، الغرفة التي نعتقد أنها أكثر أمنًا، وطائرات الاحتلال الاسرائيلي لا تترك سماء غزة، ليلًا ولا نهارًا.
ما إن بدأ الجيش الاسرائيلي اجتياح منطقة الزيتون، ونزحت العائلات بأكملها أطفالٌ ونساءٌ ورجال وكبار السن، كما مشهد التغريبة الفلسطينية، أقف فوق سطح منزلي، ويتوافد المواطنون هربًا من منطقة سكناهم إلى مكان آخر أكثر أمنًا، أنظر إليهم بحزن، وقلبي يعتصر ألمًا، وبل ويبكي قبل عيوني.
في أولى ليالي الاجتياح، تمركزت الآليات العسكرية في المربع الخلفي لبيتي، سمعنا أصوات التجريف، ولم تغادر قنابل الإنارة المنطقة كليًا، فقد تحوّل الليل إلى نهار، عدا أصوات القذائف العشوائية القاتلة والمخيفة، وصفير رصاص مسيّرة “الكواد كابتر“، والقصف في كل مكان.
أربع عائلات بقيت في بيوتها، ونحن أيضًا، في الليلة الأولى طلب منا والدي إطفاء الإضاءة “اللدات”، وعدم الرد حال طرق أحدهم الباب، التزمنا بقراره، وجلسنا سبعة أفراد في غرفتي، نوافذها مغطاة بمفرش ونايلون، فلم يتبقَّ من زجاج نوافذها شيئًا بسبب شدّة القصف.
ليلة معتمة مخيفة، تخللها الكثير من الرعب باختلاف أنواعه، لم نستطع فيها النوم، أو حتى الذهاب إلى دورة المياه، والهمس كان طريقة التواصل مع والدتي حينها، من شدة ما شاهدنا وسمعنا، وحينما تمرّ “الكواد كابتر” ندعو الله ألا يصيبنا مكروه.
بدأت الليلة بالقنابل المضيئة وسط سماء لا تغادرها الطائرات الحربية والطائرات المسيرة، صوت القصف مرعب، والشظايا تتطاير على سطح منزلنا ونسمعها بقّوة، منتصف الليل تحرّكت الدبابات العسكرية وتجوّلت في شوارعنا، صوت غريب لم أعتد سماعه، بدأ القتال ومعه الأصوات المرعبة.
اشتدّت حدّة الاشتباكات، وسقطت قذيفة على منزل جيراننا، استطاعوا الهرب بأعجوبة، وبعد دقائق سقطت قذيفة أصابت صالون بيتي، لكن بقينا داخله ولا نعرف أين نذهب في هذا الوقت المتأخر من الليل، والحركة أثناء الاشتباكات قاتلة.
حلّ الصباح، بصعوبة استطعنا التواصل مع جيراننا للاطمئنان عليهم، الحركة تنطوي على مخاطر، كل ما نسمعه صوت “الكواد كابتر” والقذائف، لتكون الليلة التالية أشد رعبًا من سابقتها، أصبت حينها بانهيارٍ تام، تجمّدت قدماي، بكيت كثيرًا من شدة الخوف، كنت ألتصق في زاوية الغرفة، القصف عنيف ومرعب، اكتشفنا صباح اليوم التالي أن حائط سلالم البيت تعرّض للكثير من الرصاص.
تفاصيل الليلة الثالثة لا تختلف برعبها، انتقلنا إلى غرفة أمي، بعدما تطاير كل الزجاج المتبقّي من غرفتي، أصيب أخي بشظايا الزجاج، ليلة باردة جدًا مليئة بكل أشكال الرعب، سويعات ويبزغ النهار ولم نكن نعلم أن الموت هذه المرة أقرب!
السادسة صباحًا، قصف بصاروخ طائرة استطلاع أصاب سلالم سطح المنزل، ودمّر خزان المياه، الغبار تطاير في كل مكان، “هل الجميع بخير”، ناديت أبي ورائحة الغاز تنتشر في البيت، شعرنا بالاختناق، لكن لم نصب أيضًا، لنكتشف أن أنبوبة الغاز تعرضت لشظية، ولولا أنها مغلقة بإحكام لحدثت مجزرة.
لاحقًا غادرنا إلى بيت جدّتي، ليكون الآخر قد تعرّض لضررٍ كبيرٍ بعد قصف منزلٍ مجاورٍ لهم، غادرناه بعد ساعتين، ذهبنا إلى بيتٍ آخر لجدّتي، وكان قد تضرر كذلك، بقينا فيه حتى إعلان التهدئة المؤقتة، عدنا إلى بيتنا المتضرر، ليس فقط من الاجتياح بل بفعل مجزرة عائلة النديم التي كانت في الأيام الأولى للحرب، رجعنا إلى بيتنا، وما زلنا نعايش بشكل متكرر اجتياح جديد، وضربات لا تتوقف.