أم عمران تخوض معركة في مصائد الموت جائعة
النصيرات- سالي الغوطي:
منذ ساعات الفجر، تترك السيدة نيفين الدحنون (47 عامًا) طفليها نائمين وحدهما في الخيمة، وتتجه إلى (مصائد الموت) سيرًا على الأقدام، بحثًا عن لقمة عيشِ صغارها.
نيفين هي سيدة فلسطينية تحمل الجنسية المصرية، تعيل وحدها طفليها عمران (9 سنوات) ومالك (8 سنوات)، بعدما نزحت من بيتها في منطقة بيت لاهيا شمال قطاع غزة إلى منطقة المواصي غرب محافظة خانيونس جنوب قطاع غزة، منذ بدء الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، والتي اندلعت يوم 7 أكتوبر 2023م.
بعيونٍ باكية تقول أم عمران: “الجميع هنا جوعى، أرى أجساد أطفالي تذبل حتى أصبحوا كالهياكل العظمية، التي لا يكسوها سوى الجلد بسبب المجاعة التي عمت كل قطاع غزة”.
أم عمران هي واحدة من النساء اللواتي يعانين المجاعة بسبب منع جيش الاحتلال الإسرائيلي دخول المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزة، منذ بداية مارس 2025م، ما دفع الناس إلى الذهاب لنقاط توزيع المساعدات الأمريكية حيث يُطلق جيش الاحتلال النار بكثافة صوب طالبي المساعدات، ما تسبب بوفاة أكثر من ألف ضحية حسب توثيق وزارة الصحة الفلسطينية.
تسند السيدة نفسها إلى وسادة لترتاح من عناء ليلةٍ من الرعب قضتها هرولة وهي تحاول الحصول على أي طعام من مصائد الموت بعدما سقط أمامها عدد من الشهداء والمصابين.
تقول ودموعها تسابق كلماتها:” بعد ساعتين من المشي سيرًا على الأقدام، فوجئت بكم النساء هناك، صراخ وزحام كأننا في علبة سردين، حتى فُتحت البوابة نحو مصائد الموت وتقدمنا، جاءنا صوت عبر مكبر الصوت يصرخ علينا مطالبًا برجعونا إلى الخلف ومن ثم تم إلغاء التسليم”.
“بدي أشرب شاي بسكر، بدي آكل مناقيش”، يقول الطفل عمران لأمه التي أصرت من أجل صغارها على أن تشارك حين تم الإعلان عن يومٍ مخصص للنساء، تعقّب: “ظننت أن هذا اليوم خُصص ليأخذ الجميع حصة، لكن الموت سيد المكان حتى أطفالي ناموا يومها جياعًا”.
عما شاهدته في مصائد الموت تروي: “خرجت منذ السابعة صباحًا، ودعت أطفالي بعد أن حضّرت لهم طبقًا من الأرز للفطور والغداء، سرت نحو نقطة المساعدات شمال غرب رفح، شاهدت نساءً يرجعن يحملن أكياسًا، نظرت إليهن وأنا أقول لنفسي أني تأخرت، حتى سمعت إحداهن تقول (رح يفتحوا كمان مرة)، فاطمئن قلبي”.
تتابع: “تحولت الأرض إلى لعبة الحبار، قنابل غاز الفلفل في كل مكان، صواعق كهربائية، ورجال يحملون عصايات (دبسات)، بدأوا بضرب النساء بوحشية وإهانة، اختبأت بين الأجساد”.
تكمل بعصبية: “كانت أصوات الشباب من الخارج تردد (الجيش بدو ينزل) وفجأة شاهدنا الدبابات فوق تلٍ رملي وبدأ الرصاص يتطاير، البعض اختبأ خلف جرارٍ مقصوف، وآخرون خلف زينكو، بقينا ثلاث ساعات متواصلة من الرعب فوق بعضنا، إحداهن تضع رأسها فوق ساقي، وأخرى قدمها على رأسي، وأنا أبحث عن بصيصِ أملٍ لأطفالي رغم الخوف”.
“لو رحتي مرة ثانية رح نربطك بالفرشة، خفنا عليكي”، هكذا قال عمران ومالك لأمهما عند عودتها خالية اليدين بوجهٍ مزرقّ وعيون بالكاد تستطيع الرؤية بسبب غاز الفلفل، تشبث أطفالها بها بقوةٍ وهم يبكون خوفًا عليها.
تحتضن أم عمران صغيريها بقوةٍ وتحاول تعويضهم، فقد أصبحت لهم أبًا وأمًا بعدما غادر والدهم قطاع غزة بسبب مشاكل عائلية؛ وتركها معلّقة منذ مارس 2023م، وقد عجزت عن العودة إلى بيتها في مصر.
تتابع بنبرة غضب: “أتمنى أن تعود أسعار السوق كما قبل الحرب، حتى لا يُجبر أحد على الذهاب إلى نقاط الموت، عندما أذهب للسوق تصادفني موجة غلاء مسعورة، فأعود بخيبة أمل جديدة”.
بالدموع تتحدث عن يومٍ لم يكن في بيتها طعامًا سوى ما تبقى من دمسة عدسٍ فاسد صنعته قبل يوم، لكن بسبب الجوع غسلته وتناولته، رغم علمها أنه غير صحي، تعقّب”: أطفالي يعانون من مشاكل صحية في الحالب، أجريت لمالك 4 عمليات وعمران يعاني من الربو، أنا ضعيفة أمامهم”.
تخوض أم عمران معركة يومية مع الحياة من أجل البقاء، تبدأ نهارها فجرًا بالوقوف في طابور المياه، وقد لا يحالفها الحظ في التعبئة بسبب الزحام والضرب، فتضطر لشرب مياه غير نقية، بعدها تنطلق إلى طابور التكية، وقد لا يحالفها الحظ بالحصول على طعام، بينما تحترق من أشعة الشمس وقلبها يغلي خوفًا على صغيريها الذين تركتهم وحدهم.
وتعاني نحو مليون امرأة وفتاة في قطاع غزة خطر المجاعة حسب تقارير أممية، ويواجه سكان القطاع مستويات عالية من انعدام الأمن الغذائي في ظل استمرار حرب الإبادة، وإغلاق جيش الاحتلال الإسرائيلي لمعابر القطاع منذ مارس 2025م ومنع دخول المساعدات الإنسانية الغذائية والطبية.
وتفرض اتفاقية جنيف الرابعة الخاصة بحماية المدنيين وقت الحرب في مادتيها (55) (59) على دولة الاحتلال تزويد السكان المدنيين بالمؤن والمساعدات الطبية اللازمة.
عن أمنيها تقول أم عمران: “آمل أن تتوقف الحرب وينتهي هذا الكابوس، وأجد نفسي في مصر وأطفالي على مقاعد الدراسة لأكمل علاجهم وتنتهي من حياتي وأطفالي طوابير التكيات والمياه فهذه ليست حياتهم”.