دُفنت طفلتها تحت ركام منزلها في جباليا أسماء: الصليب الأحمر لقاها في ثلاجات الموتى “بتتنفس”
دُفنت طفلتها تحت ركام منزلها في جباليا
أسماء: الصليب الأحمر لقاها في ثلاجات الموتى “بتتنفس”
دير البلح – هيا بشبش:
بالكاد أسندَت رأسها لترى ما حدث حتى بدأت تستوعب، ركام المنزل، دخان، أشلاء ضحايا وأنّات مصابين، استغاثةُ من بَقي على قيد الحياة، دقيقة سكونٍ تعقبها “بنتي”، سؤال الصرخة الذي أطلقته “بنتي روحي، ولادي وينهم”؟
كان هذا المشهد الذي عايشته السيدة أسماء زامل (38 عامًا) النازحة من مدينة جباليا شمال قطاع غزة، إلى خيمة من شوادر النايلون في دير البلح وسط قطاع غزة، وهي تروي كيف دفنت طفلها أمير، وطفلتها مرام تحت ركام منزلهم المدمّر، ثم عثرت على مرام (عام ونصف) حيّةً بعد ثلاثة أيام!
تتجرع أسماء ألم إصابتها، شقيق زوجها تحت الركام يطلب منها المساعدة لكن لا تستطيع إغاثته، تهرب من المكان لمنزلِ أهلها المجاور، تطلب المساعدة لإنقاذ أبنائها الثلاثة وطفلتها الوحيدة.
“لما بتذكّر اللي صار بتصيبني رجفة، حالة نفسية ما بقدر أسيطر على حالي، حكالي زوجي دفنّا الولاد يلا ع الجنوب، وطلعنا”، تصف أسماء الليلة الثقيلة يوم 19 نوفمبر/تشرين الثاني 2023م، حيث أودى قصف إسرائيلي بحياةِ 50 فردًا من الحي بينهم ابنها أمير، حين أمطرت دبابات الاحتلال منطقتهم في جباليا البلد بالقذائف المدفعية بشكل عشوائي، تعقب: “بعدما تعرّض منزل أهلي للقصف لجأوا لبيتي وأصبحنا نحو 500 في طابق واحد كلنا نطلب الأمان”.
كان ذلك في الشهر الثاني من الحرب التي شنّها الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023م، وأجبر سكّان شمال القطاع على النزوح إلى جنوبه يوم 13 أكتوبر/تشرين الأول، في مخالفة للمواثيق الدولية التي تحظر التهجير القسري للمدنيين الذين تعقّبهم بالقصف والقتل، فارتفع عدد ضحايا الحرب على قطاع غزة حتى 24 أكتوبر 2024م إلى 42 ألفًا، نصفهم من النساء والأطفال.
حليمة زامل (66 عامًا) هي والدة أسماء وتعيش حاليًا معها في نفس الخيمة، تقول: “رفض الجميع دخول منزلنا لأنه تعرض للقصف بصاروخ تحذيري، صلينا صلاة المغرب في حوش الجيران، وقررنا أن نبيت في منزل ابنتي أسماء، ظنًا منا أنه أكثر أمنًا من منزلنا، ولكن ٣ صواريخ أحالت منازل الحارة إلى كومة ركام، صرخات الشباب، لم توقف ولم تغير ما حدث، هرع أبنائي للبحث عن أختهم وأبنائها وليغيثوا من بقي على قيد الحياة”.
عودة لأسماء التي تكمل: “وضعت ابنتي الصغيرة مرام (عام ونصف) في حضن سلفتي (زوجة شقيق الزوج) وذهبت لأعدّ العشاء لأبنائي الثلاثة أسامة (19 عامًا) أمير (14عامًا) وحامد (12 عامًا)، طلبت من أسامة أن يُحضر الخبز، بعد ذلك لا أعلم ما حدث”.
فتحت عيناها لتجد الظلام يحيط بها، فظنّت بداية إنها استشهدت وأن هذا ما بعد الموت، حتى جاء بصيصُ ضوءٍ خافت، كشف الركام، تكمل “سلفي كان يظهر راسه فقط فوق الركام طلب مني أطلعه وما قدرت أنا مصابة”.
تعالت أسماء على وجعها، لجأت لنجدة تخرج لها ابنتها وأبناؤها وزوجها من تحت الأنقاض، تبحث عن خبرٍ عن سلامتهم، ليلٌ حالكٌ كان محملًا بأوجاعٍ جسديةٍ ونفسيةٍ، تكمل أسماء: “طلعوهم واحد واحد، وكذبوا عليا حكولي إنهم كلهم بخير، زوجي إصابة خفيفة، وبعد أكم ساعة عرفت أن أسامة وحامد مصابين، بنتي مرام وابني أمير استشهدوا، ١٥ شخص من العيلة استشهدوا”.
تكشّف الصباح، توقفت القذائف، عشرات الشهداء في الطرقات، عزم الجميع “أهلُ الحارة” على النزوح إلى جنوب قطاع غزة، لم يوافق زوج أسماء، ابراهيم سعد (43 عامًا) على النزوح جنوبًا مع أهلِها، غادر الجميع، احتضنت أسماء خوفها، لملمت أبناءها وعادت للمنزل وبقايا الحارة، حيث الركام يحتضن إلى جانب طفليها أمير ومرام، شقيق زوجها وزوجته وأبنائه وحماتها وابنة حماها مع ابنها، كلهم شهداء.
“ترجيت زوجي وصلني على المستشفى الاندونيسي بدي أودعهم، أمير ومرام، حكالي خلص دفنتهم”، ما تبقى من العائلة، وعائلة أهلها بدأوا النزوح للجنوب، انتظرت أسماء ابنها حامد الذي بقي في المستشفى الأندونيسي، ليغرز جرحٌ غائر في جسده إلا أن دبابات الاحتلال التي حاصرت المشفى كانت أسرع إليه من الطبيب”.
أخبرها حامد بعد وصوله حافي القدمين والدماء تغطّي وجهه وجسده، إنه نجا بأعجوبةٍ من قذائف الدبابات التي حاصرت المستشفى الأندونيسي، عشرات الشهداء سقطوا على الأرض وهم يحاولون الهرب من المستشفى، أحدهم أشفق عليه لصغر سنّه وساعده وأوصله إلى الحارة.
عصر ذلك اليوم أعاد جيش الاحتلال أهلها عن الحاجز الذي يفصل شمال قطاع غزة عن جنوبه، بدأت رحلة النزوح مجددًا بتاريخ 20 نوفمبر / تشرين الثاني 2023م، مصابون لا نقدر على المشي، كان حامد يقدم لي المساعدة في الطريق، “تعكّزي عليّا، أنا بساعدك، شوية وبنصل”، ذلك الصغير لم يقدر على تبديل ملابسه المليئة بالدماء، رغم تعبه وألمه إلا أنه من فرض معاونته لي”.
أما عن أهل أسماء تقول والدتها حليمة: “تركنا كل شي ورانا ونزحنا، بنتي وعائلة زوجها، والكثير من الحارة كانوا مصابين، كانوا خلفنا، وعند وصولنا للحاجز، اعتقل جيش الاحتلال ابني علاء زامل (42 عامًا) وماجد (22 عامًا) وزوج بنتي يوسف نبهان (40 عامًا)، وجع وقهر، كتمت صرخات داخلي، اللي بيعترض الجنود بطلقوا عليه النار، اعتقلوهم الثلاثة وما قدرت أصرخ واحكي لهم سيبوهم”.
بعد الحاجز، أطلقت والدة أسماء صرختها المكتومة، صرخة إغماء، لم يعد أحدٌ يستطيع تحمّل كل ذلك الألم، تحلّق حولها من تبقّى من أبنائها، أيقظوها وعادت لتمضي الطريق إلى مدينة رفح، هي وأسماء وكل من فرّ من الموت، سرعان ما قرروا تغيير المكان إلى كلية فلسطين التقنية في دير البلح، بعد ثلاثة أيام.
ويخالف ما تعرّضت له عائلة أسماء كافة المواثيق الدولية، وأهمها اتفاقية جنيف الرابعة الخاصة بحماية المدنيين وقت الحرب، والتي حظرت في مادتها (3) الاعتداء على السلامة البدنية والقتل بجميع أشكاله والتعذيب وأخذ الرهائن للأشخاص المحميين، كما حظرت الاتفاقية النقل القسري لهم، وطالبت بتوفير الحماية خاصة للنساء والأطفال.
كما يخالف نص القانون الدولي الإنساني الذي يحظر في مادته (70) استخدام وسائل وأساليب القتال التي من شأنها إحداث إصابات أو آلام لا مبرّر لها.
يوم ٢٤ /١١/٢٠٢٣ قدِم أحد أقارب عائلة سعد بالخبر السار، الصليب الأحمر نقل المصابين من مستشفى الاندونيسي الي مستشفى ناصر، يوجد ثلاث فتيات مجهولات الهوية، طلب من أسماء الذهاب للتعرّف عليهن وكانت ابنتها إحداهن، وبالفعل هرعت أسماء إلي مستشفى ناصر في خانيونس جنوب قطاع غزة، تقول: “وجهها كان متورم، عيونها كانت برا وجهها، فعليًا ما تعرّفت عليها إلا من علامة صغيرة في إيدها، وصرخت هي مرام، مرام عايشة، مرام عايشة”.
“ربنا ردها إلي، الصليب الأحمر لقاها في ثلاجات الموتى، ما زالت تتنفس، فوضعها من ضمن المصابين الذين نقلهم إلي ناصر”، شهر في مستشفى ناصر بقيت أسماء مع ابنتها مرام التي كانت تُعالج هناك، لم تكمل العلاج فجيش الاحتلال لحق بهم إلى هناك، واقتحم المستشفى لتفر أسماء وابنتها للمرة الثانية، لتلتحق بعائلتها في مدينة دير البلح، وتكمل علاج ابنتها في الخيمة التي اقتطعتها من خيمة أهلها.
عودة للصغيرة مرام والتي لم تكمل علاجها حتى الآن “بنتي مرام بحاجة عمليتين في عيونها لكن الأمر صعب لأنه علاجها في الخارج ومعبر رفح مغلق بسبب الحرب”.