آخر حكايا سائد … “وداعًا آمنة”

الزوايدة- دعاء برهوم:

“كُسر قلبي وأغرقني في حزن مدى العُمر”، كلماتٌ كتبها الصحفي سائد حسونة (35 عامًا) على صفحته على الفيسبوك، في نعي زوجته الشهيدة الصحفية آمنة حميد، وطفلهُ البكر (مهدي)، في قصفٍ إسرائيليٍ استهدف منزلهم في مخيم الشاطئ غرب مدينة غزة.

“شعرتُ أن حياتي توقفت، وأن كل ما كنتُ أعيشُ من أجله اختفى”، يقول سائد بصوتٍ مخنوق فزوجته آمنة كان عماد البيت، تقدّم الدعم النفسي والعاطفي للجميع، وتدير المنزل بحكمةٍ وتفان، دورها كان محوريًا في دعمه وإسناده، خاصة في عمله الصحفي، فكانت حريصةً على نجاحه وتقدّمه.

بقلبٍ مكلومٍ وتنهيدة حزن يعود إلى عام 2012، عندما تزوّج سائد من الصحفية آمنة حميد، التي أنجب منها ستة أطفال، وعاشا معًا حياةً ملؤها الحبُ المتبادل والسكينة، مع زوجةٍ كانت قادرة على التكيَف مع كلِ الظروف وأصعبها، بصبرِها وقوتِها وحبها العميق له وللعائلة.

عندما اندلعت الحربُ الإسرائيليةُ على قطاع غزة يوم 7 أكتوبر 2023، بدأ سائد وآمنة نقل حَكايا ما يجري، ولمّا أجبرَ الاحتلال مئات الآلاف المواطنين الفلسطينيين من سكان شمال قطاع غزة على النزوحِ إلى الجنوب، رفضا الامتثال، وآمنوا أن البقاء جزءٌ من النضال ضد المحتل، والتمسّك بالأرضِ والقضية، خاصة وأن النقل القسري يخالفُ اتفاقية جنيف الرابعة التي ضمنت الحماية للمدنيين وقت الحرب.

لما اشتدّ القصف نزح سائد وعائلتهُ صوبَ مستشفى الشفاء غرب مدينة غزة مع زوجتِه وأطفالِه، وحين هاجم الاحتلال المستشفى في ديسمبر 2023، أبعدَه الاحتلال عن أطفالِه باعتقالِه أمامَ أعينهم، لكن زوجته ظلّت توفر الحماية لهم، وهو ما منحه بعض الطمأنينةِ عليهم.

يتابع: “تعرضتُ طوال فترة الاعتقال للتعذيبِ الجسدي والنفسي، والحبسُ الانفرادي والإهانات، بهدف كسر إرادتي وإجباري على الإدلاء باعترافات، وفي النهاية أفرجوا عني عبر معبر كرم أبو سالم إلى مدينة رفح، بعيدًا عن عائلتي التي ظلّت في غزة، تعاني ويلات الحرب الشرسة”.

رغم قلق سائد على أطفاله، لكن ما طمأنهُ أن أمهم معهم، يتواصلان هاتفيًا كلما توفّرت الإمكانية لذلك، آخرها كان يوم 24 إبريل 2024، قبل استشهادها بدقائق، في مكالمةٍ تبادلوا فيها المواساة، ووعدتهُ بمعاودةِ الاتصال لكن صاروخًا أنهى الحكاية.

يعيش أطفال سائد الخمسة ظروفٍ قاسيةٍ في ظل غياب الأم والأب، فهو غيرُ قادرٍ على التواصل الدائم معهم، نتيجة صعوبة الاتصال واستمرار الحرب والنزوح المستمر.

يقول: “الشعور بالعجز عن حمايةِ أسرتي يفوق أي ألم جسدي عانيته، أصغر أطفالي رضيعة ولدتها آمنة قبل الحرب، وأكبرهم 10 سنوات، جميعهم بحاجتي”.

أكثر ما يقلق سائد هو القصفُ اليومي المستمر في محيط أطفاله الخمسة الذين نجوا من الموت ويعيشون في كنف جدتهم، مبينًا أن طفليه (ضحى) و(علي) أصيبا خلال الغارة التي قتلت آمنة ومهدي، وما زالوا يعانون نتيجة الإصابة، وهم بحاجةٍ لمن بداوي جراحهم و”يطبطب” عليهم.

وخلافًا لما حدث مع سائد وعائلته، تنص اتفاقية حقوق الطفل على عدم فصل الأطفال عن والديهم، كما تحظر اتفاقية جنيف الرابعة الخاصة بحماية المدنيين وقت الحرب، التعرض للمدنيين بالقتل والاعتداء على كرامتهم.

يكمل: تدميرُ المنزل لم يكن خسارةً مادية، بل مكانٌ مليء بالذكريات والأمان لي ولعائلتي، خسرت معه معداتي الصحفية من كاميرا وأجهزةٍ فنيةٍ ضرورية لعملي، فكلُ جهدٍ بذلته خلال السنوات الماضية ذهب هباءً”.

ومثلما طالت الحرب حياته الشخصية، فعملُه أيضًا تضرر، إذ من الصعبِ الوصول إلى المعلومات وتوثيق الأحداث بسبب القصف المستمر والخطر في كلِ مكان، إضافة إلى التحدّيات التقنية الناتجةِ عن انقطاع الكهرباء والانترنت والاتصالات، والذي جعل عملُه كخبيرٍ تكنولوجي أكثر تعقيدًا وفقد العديد من المشاريع.

يقلّب سائد صور زوجته آمنة على هاتفه النقال ويكتم دموعًا تحجّرت في مقلتيه، ويكمل: “ما زلت أشقّ طريقي بصعوبة لأواصل عملي، أؤمن أن نقل الحقيقة هو سلاحنا الأقوى في مواجهة الظلم والعدوان”.

يحاول سائد قضاءَ وقتِه مع أصدقائه في نزوحِه الحالي بمنطقة الزوايدة، سعيًا منه لإيجاد قوةٍ نفسيةٍ وجسديةٍ تعينه على مواصلة الحياة، خاصة أنه يعيش منذ خمسة شهورٍ بمفرده، ورغم الألم والمعاناة لكنه يجتهد للململة جراحة من أجل أطفاله الذي يعيش قلق يومي عليهم، ويحمل أمنية وحيدة هي أن يلتقي بهم ويحتضنهم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى