مذكرات من المجهول
أحمد تنيره – CMC
لقد خرجت من هذه الحرب ، احمل في طياتي قصص موجعة ومأساة حلت بشعب تكالبت عليه الامم مثل ما تتكالب الأكلة على قصعتها ، لأضع هذه المآسي في حبر على ورق لعلها تحرك في نفوس قارئها أننا شعب مظلوم ، نعد لموتنا قبل أن نعد لحياتنا .
تبدأ الحكاية بكان يا مكان ، وفي احدى ليالي رمضان المبارك نعد أنفسنا لتناول طعام السحور ، سمعت وأسرتي انفجارا ضخما أصم أذاننا لفترة من الزمن ، لنتساءل أين وقع هذا الانفجار ، لتأتي صرخات الناس من خلف المنزل لقد تم استهداف عائلة الحاج ، ذهبنا مسرعين الى مكان الحدث ، بيوت مدمرة راحة الدم والبارود تفوح بالمكان ، جثث أطفال ونساء ممزقة أشلاء متفحمة من شدة الانفجار ، لقد وقعت طائرات الاحتلال على جريمة ذهب ضحيتها ثمانية من الأطفال والنساء ، هذا اليوم لن أنساه طالما بقيت على قيد الحياة ، لقد رأيت عائلة كاملة ذهبت ادراج الرياح .
في كل ليلة يتغلغل الخوف الى صدري ، هل هذه أخر ليلة لنا في هذه الدنيا ، هل سأفارق أهلي لوحدي ، أم سيتركونني وحيدا ، أدعوا الله بأن نحيا معا ونموت معا .
في احدى الليالي كنت خارج البيت أجلس مع جيراني نستمع للمذياع ، ليرن جرس هاتفي تعال الي المنزل فورا ، في الطريق أفكر ماذا جرى ، دخلت باب المنزل واذا بجدتي تصرخ بوجهي ” الساعة صارت 1ونص يا ستي وانت برة الدار اقعد هان القصف ما بفرق بين كبير وصغير “.
ضحكت من كلام جدتي العجوز وقولت لها ” عمر الشقي بقي “، لم أكمل جملتي حتى سمعنا صوت انفجار ، صوت سيارات الاسعاف كانت واضحة جدا ، أين هذا الانفجار ، خبر عاجل على المذياع استهداف مجموعة من الشباب بالقرب من عمارة جاسر وهنالك شهداء ، لم تنته هذه الليلة على خير من كثرة الحكم والمواعظ من جدتي .
وعندما بدأت الحرب البرية من قبل الاحتلال ، أصبحت أنا وأفراد أسرتي لا نفارق أي وسيلة تنقل الأخبار من مذياع وتلفاز وانترنت وحتى اننا لم نفارق الشائعات التي كانت تنشر في بعض الفترات ، وحالة الترقب من المجهول كانت تعشعش داخل قلوبنا ، فالمنطقة التي أسكن فيها أمنة بعض الشيء.
لقد كان أكثر يوم سعادة وحزن شديد في وقت واحد ، هو يوم اعلان المقاومة الفلسطينية انها قامت بأسر أحد جنود قوات الاحتلال في غزة ، لقد عم الفرح جميع أفراد الحي الذي أسكن فيه وأصوات التكبيرات لم تفارق حناجرنا لدقائق ، ولكن ما شاهدناه في صباح ذلك اليوم من جريمة بشعة ارتكبت في حي الشجاعية ، وفقدت أحد زملاء الدراسة في تلك المجزرة وهو الشهيد الصحفي ” خالد حمد ” نغص علي فرحتي كثيرا .
انتهى رمضان ، وهل هلال العيد ذهبنا الى المسجد للصلاة ، أنصتنا لكلام الخطيب الذي يحث على الصبر في سبيل الله ، ثم انصرفنا الى بيوتنا وعلامات الحزن لم تفارق ملامح وجوهنا ، في جولة العيد الموسمية ذهبنا لزيارة الاقارب .
انتهى العيد ، والجنازات لم تفارق شوارع غزة وأزقتها ، بدأ الحديث عن تهدئة انسانية لمدة خمسة أيام ، أتى الخبر الأكيد أنها ستبدأ في الساعة الثامنة صباحا ، لم أعرف النوم أبدا في تلك الليلة ، شعور غريب يأكل تفكيري ، سيحدث أمرا جللا هذا اليوم ، وقد حدث بالفعل ، اسرائيل تخترق التهدئة وترتكب مجزرة بشعة في رفح .
في ذلك اليوم استوعبت معنى الفقدان والخوف جيدا ،بينما كنت أريد الخروج من منزلي لصلاة الجمعة ، أتى الانفجار الذي لم يكن بالحسبان أبدا ، انفجار شديد جدا ، في البداية ظن الجميع أنه استهداف لأراضي فارغة في المنطقة الغربية للمدينة ، لكن أصوات الناس بدأت تتعالى ، تم استهداف مسجد الرحمة ، تخيلت أبي وأعمامي وجيراني كلهم شهداء أراهم امامي ، لم أحرك ساكنا لفترة ، أختي وقعت تحت أقدامي غائبة عن الوعي ، لقد ارتطم رأسها بالأرض ولم أحرك ساكنا ، لقد صرخ في أخي ” ألحق أختك هات مية ولك اتحرك “.
لحظات وتغير كلام الناس ، ليس جامع الرحمة ، استهداف مبنى الهلال بصاروخ تحذيري ، عادت الطمأنينة لحظة أن جميع من في المسجد بخير.
لقد انتهت واحد وخمسون يوما من الحرب ، ليبدأ بعدها البحث عن القطع المفقودة في حياتك من جديد ، الاطمئنان على الأهل والأصدقاء ، مواساة أهالي الشهداء والجرحى والمدمرة بيوتهم كان له أثر شديد في نفس كل شخص .
الفرحة بانتهاء الحرب لم تدم سوى لحظات قليلة ، ليبدأ بعدها حرب أخرى ، حرب التغلب على الحزن و الصعاب ، حرب الحرية والاستقلال والحياة الكريمة .
الرابط المختصر : http://ywjournalists.org/ar/?p=260